لا يوجد إنسان في هذا العالم يعيش حالة الاغتراب داخل وطنه أو خارجه قدر ما يعيشها الإنسان اليمني الذي يعيش حالة اغتراب حتى داخل وطنه، فالإنسان اليمني هو الإنسان الوحيد الذي يعيش الحياة بتعقيداتها، بل إنه يتعرض لعملية انتزاع عن ذاته. إن الإنسان اليمني يعيش حالة اغتراب في جميع نواحيها، اغتراب نفسي واغتراب عن معطيات التكنولوجيا والحضارة، حتى إنه تخلف عن العصر الذي يعيش فيه وتخلف عن المعرفة التي أضحت منتشرة كذرات الهواء ومع ذلك مازال الإنسان اليمني يعيش الماضي ويحن إليه. إن قضية الاغتراب تمثل الإنسان اليمني بكل تفاصيلها، حتى أضحت هذه القضية تتخطى الفرد وتتخطى أيضاً السلوك الفردي إلى أن أصبحت ثقافة. ها نحن نعيش اغتراباً سياسياً واغتراباً دينياً واغتراباً وطنياً، فلم نعد نعرف ماذا يعني الوطن ولا ماذا تعني الوطنية، ولا من هو الوطني من غير الوطني، إن كل ذلك أوجد نوعاً من الاغتراب، حيث تعرض المجتمع إلى تأطير حقيقي رسمت له مسارات محددة لا بُد من التقيد بها شاء أم أبى، فليس أمامه أي خيار، فقد توقف المجتمع أمام شعارات جوفاء عملت على إيقاف الحياة داخل المؤسسات الدينية والمدنية، وهكذا تعرض المجتمع للتجزئة وظهر المشروع الأيديولوجي المغلف بالدين حاملاً معه مسار تغيب المجتمع. ومما لا شك فيه أن ظاهرة الاغتراب ليست وليدة اللحظة وإنما هي نتاج مراحل زمنية طويلة حيث استغرق الجهد الكثير والوقت الطويل إلى أن تحققت الاستجابة الاجتماعية بفعل مقومات وعوامل سياسية واجتماعية وتاريخية وحزبية أسهمت في صناعة هذه الغربة وتغيب الحس الوطني أو تحديد المفهوم الوطني على أقل تقدير. إن أهم مشكلة يواجهها المجتمع اليمني هي مشكلة الاغتراب، فالمجتمع أضحى أسيراً لثقافة دينية متكلة جعلته يعيش حياته كغريب عن الحداثة وعن التكنولوجيا. وكما أن الفرد يعيش حالة اغتراب، فكذلك المجتمع يعاني هو أيضاً حالة اغتراب، فهو رافض للمؤسسات المدنية ورافض للنظام المكون لحياة المجتمعات. ولعلي أشير هنا إلى تلك الثقافة المتشددة التي تنسج خيوطها في المدرسة والجامعة والمسجد وهي بدورها تصنع التشدد والتطرف وهذا دليل واضح على اغتراب الثقافة عن المجتمع مما خلق تناقضات حادة بدأت تظهر الآن على سطح المجتمع.. وللخروج من هذا الاغتراب وتدارك الأجيال القادمة وتجنيبهم الصراع فإننا نحتاج إلى مشروع ثقافي يعنى بجوانب الحياة الإنسانية التي تساعد على إتاحة مجالات التعاون والتواصل. فالثقافة هي المسار الذي يرسم للمجتمعات الكيفية التي تسير حياتها وفقها. إننا نحتاج إلى مشروع تنويري يفسح المجال أمام العقل بهدف تغيير تلك العلاقات السياسية والاقتصادية والدينية التي مازالت تعيق التفكير العقلاني. نحتاج إلى هذا المشروع، لأن العقل هو الوحيد القادر على أن يسمح للمجتمع بأن يجري تعديلات جوهرها على كثير من القيم والمعايير الخاطئة ويساعد على تحريك تلك التعديلات وتحديدها. إن الاغتراب الذي نعيشه على المستوى النفسي ساعد تلك القوى الاجتماعية المرتكزة على القراءات الخاطئة للتراث على الاستمرار في استخدام ذلك المنهج السطحي المجافي للعقلانية والرافض للتغيير. وفي ظل ذلك وقع المثقف الحزبي أسيراً لتلك التحالفات القائمة على استبدال سيد بآخر والتباهي بما يملكه سيده حتى أنه سقط في دائرة التراث الديني دافعاً المجتمع إلى التشدد وإضافة شوائب جديدة تسهم في اختزال الفكر الديني في ممارسات ضيقة تنم عن جهل هذا المثقف وعدم إدراكه للمشروع الحضاري. إن مثقفينا يعتقدون أنهم داخل العقلانية بينما هم في الحقيقة داخل الإيديولوجية التي تقود إلى الهذيان. إن الأفكار التي خلقتها الأحزاب السياسية ومن ورائها المثقفون ها هي اليوم ترتد ضدهم وها نحن أمام ثقافة متطرفة تنفلت من عقالها. وأخيراً فأحزابنا السياسية جعلت المصلحة الاقتصادية فوق كل اعتبار.. فهي تميل إلى تبني سلوكيات متمركزة حول ذاتها، وهي بذلك تتجاهل الغير، بل وتنفيه. إن أحزابنا كلها تقوم على فكرة السيطرة على الغير وعلى الاستعباد المعمم، وقد نتج عن ذلك أن أصبح المجتمع يعاني من الانحراف والجريمة، لم تستطع الأحزاب اليمنية أن تخلق ثقافة الاندماج لتعزز حياة الجماعة، مما حول المجتمع كله إلى هامش. إن سيطرة الأنا المخلص هو السائد في حياتنا، كما أن البطل المخلص هو العامل المشترك بين الأحزاب، مما جعل عامل الصراع هو السائد حتى يومنا هذا.. ومن هنا لم تستطع الديمقراطية ولم تتمكن من احتواء ثقافة الاقصاء، مما وسع من دائرة الاغتراب.