من يتابع ما يجري في المشهد السياسي اليمني هذه الأيام يكتشف أن هناك مراكز قوى تحكم حركته وتحدد مساراته الراهنة.. وبالرغم من أن مراكز القوى هذه عبر تاريخها كانت عقبة رئيسة أمام التحديث وبناء الدولة المدنية، إلا أنها هذه المرة قد مدّت يديها إلى أطراف خارجية كانت تتربص بالنظام الجمهوري بالأمس، وهاهي اليوم تتربص بالوحدة.. وقد ساعد الطرفين في تقوية شوكتهما عوامل، منها السياسي، ومنها الاقتصادي والاجتماعي، ومنها الإعلامي والنفسي والمناطقي. فهاهو رئيس مجلس التضامن الوطني الذي زعم ذات يوم أن مجلسه جاء ليواجه الفساد والاختلالات الأمنية، هاهو اليوم يرفض الامتثال لقانون منع حمل السلاح ويحرض قبيلته على مواجهة السلطة!. إن مثل هذه الممارسات تولّد احتقانات وتربك الأمن العام وتجعل كل الأطراف تستخدم سياسة تكسير العظام من أجل الحصول على مكاسب شخصية. وقد أضحت السلطة اليوم واللقاء المشترك يقفان على طرفي نقيض، مما يسهل على مثل هؤلاء أن يقوضوا بنية الدولة، فبعد خمس وأربعين سنة من قيام الثورة والجمهورية نجد من يريد أن يحيي القبيلة بمفهومها السلبي وليس الإيجابي ويبعث فيها روح الجاهلية الأولى، رافضاً أن تنصهر هذه القبيلة في بوتقة المجتمع ونسقه الاجتماعي. وأية قراءة دقيقة لما يجري سيجد القارئ أن هذه القوى منذ قيام الثورة وحتى اليوم يقف معها وإلى جوارها الفكر الديني المسطح وذلك ما نلمسه من بعض القيادات الدينية من تصريحات متشددة تدعو إلى المواجهة.. هذه العناصر ومن ورائها حزبها تطرح نفسها على أنها البديل الأقوى للمؤتمر الشعبي وحكومته، بل بديلاً للنظام الجمهوري كله بوصفه يدعو إلى بناء الدولة المدنية التي تعارض في الأساس الدولة الدينية. وخطورة ما يجري اليوم أن قوى اليسار بمختلف أطيافها قد التفت حول هذا الحزب وحول هذه المراكز بوعي منها أو بغير وعي لتعطي المشروعية لهذه القوى لتلتف على مكاسب الثورة والجمهورية، كما أن ذلك الالتفاف يحرم القيادات الشابة داخل اليسار من أن تقول كلمتها وأن تفكر بطريقة مختلفة عن طريقة الحرس القديم. والقضية التي أتحدث عنها أكبر وأوسع وأشمل من حصرها في حرس قديم وحرس جديد يملك الطموح، فأحزاب اليسار تحتاج لتجديد واستمرارية المستويات القيادية. ونحن لا نقصد مجرد ملء الفراغ لإثبات صحة الرغبة في تواصل الأجيال، وإنما القضية تتعلق باستحقاقات المرحلة التي تفرض علينا الإسهام بصدق في تفعيل سياسات التجديد والتطوير والتحديث برؤية عميقة تتجاوز حدود الثأر أو اللحظة الراهنة. والسؤال الذي يواجهنا هو: هل فعلاً اجدبت أحزاب اليسار وعميت عن قراءة ما يجري في الساحة وما يراد لليمن، وهل عجزت عن أن تكون قوة ثالثة تشكل توازناً يمنع المتهورين من قيادة اليمن نحو الهاوية؟. إن أحزاب اليسار ومعها حزب الإصلاح يعانون أزمة هوية، فلم تعد هناك نقاط فاصلة بين الدولة المدنية الحديثة ودولة القبيلة، وإن دل ذلك على شيء إنما يدل على جهل هذه القوى بمدخلات العملية الديمقراطية وبعدم القدرة على قراءة الواقع اليمني قراءة دقيقة. لقد أخطأت أحزاب اليسار في تلمس الإصلاح السياسي الحقيقي حينما استكانت للعيش في «حضّانة» حزب الإصلاح ولم تطرح بديلاً يجذب الجماهير، وخضعت في النهاية لمواقفها المتجمدة الراهنة. فنحن نعلم والأحزاب المنضوية تحت عباءة حزب الإصلاح تعلم أن مرجعية حزب الإصلاح السياسية هي مرجعية دينية مطلقة، ومرجعية قيادة الدولة بسلطاتها الثلاث هي هيئة العلماء صاحبة الحل والعقد، والرئاسة مقصورة على الذكر دون الأنثى. وأزعم أن القرار التاريخي الذي اتخذه رئيس الجمهورية ببدء برنامج الإصلاح السياسي يعد قراراً استراتيجياً، وهو محاولة أصيلة يسعى النظام إلى تغيير طبيعته، لكن أحزاب المعارضة أثبتت أنها ضد التحول الديمقراطي، كما أن منظمات المجتمع المدني والمثقفين أثبتوا أنهم ليس لهم دور فاعل في خوض معركة التحول الديمقراطي وليس لهم قدرة التأثير في حركة الأحزاب، فقد فقدوا القدرة على التأثير، بفضل صعود القوى القبلية التي جعلت المثقف يلتف حولها وينظر لها على حساب الدولة المدنية. لقد أصبح هذا التشخيص ضرورياً بعدما زاد الصخب حول مبادرة الرئيس دون تحديد واضح لأهداف هذا الطرف أو ذاك وغابت قواعد التقييم. إن مبادرة رئيس الجمهورية للإصلاحات السياسية تحتاج في المقام الأول إلى ثورة ثقافية تعيد صياغة القيم الموجهة للسلوك، وتصحيح الخلل الجسيم في البنية الاجتماعية والاقتصادية، وهذه مهمة وزارة الثقافة ومن ورائها المثقفون أصحاب الرؤى العقلانية الرشيدة، نحتاج إلى ثورة ثقافية تجعل العقل هو محك الحكم على الأشياء!. ونحن نثق في رئيس الجمهورية وفي مبادراته الدائمة التي أثبتت الأحداث دوماً أنها صائبة، فقد اتخذ قراراً شجاعاً في إعلان الوحدة يوم كان الجميع رافضين ذلك، ونحتاج اليوم إلى قرار شجاع منه لمواجهة الفساد، ونحن جميعاً معه وسنكون أدواته للإصلاح والتغيير.