قلنا إن الرومي درس على يد أستاذه وصديق والده سيد برهان الدين لمدة تسع سنوات، وخلالها تجوّل جلال الدين الرومي في مرابع المكان، وتمرّغ في أحوال الزمان صائماً طوراً، ومقيماً أطواراً أُخرى .. ناظراً لأمرالوجود نظرة الرائي الحيران، والمتطلع الولهان، وفي دمشق بالذات كانت له أربع سنوات أو تزيد قليلاً، لكنها تعيدنا مرة اخرى إلى مغزى المكان والرقم. هل كان الرومي يدرك تلك الأبعاد الزمانية المكانية، أم أنها كانت مرقومة في سفر الغيوب ؟ المؤكد أن الرومي كان كالطائر المُحلق في سماء الأبدية، الرائي لمعاني الكيفية، والمتطلع لمتاهات الأسباب والمسببات، ولهذا وجد طمأنينته في الحب الإلهي،والانخطاف بالحق انخطاف الفراشة بالنور، وتماهيها الانتفائي به، فمن أراد الحق يتخلّى ويتسلّى ويتجلّى كما يقول الإمام الغزالي، ومن أراد الطيران في سماء السببية يتحول إلى طائر بجناحين من الديمومة والأبدية، فيطير في هواء الكيفية حتى ينتفي كانتفاء الفراشة في ضوء اللهب كما يقول الحلاج في طواسينه . لكن الرومي كان من صوفية الشروح والاحتياطات الباهرة، وكان يتمدد بقامته في أثير الدهر، معيداً دهر التحول، ودهر الثبات، ودهر الدهور، فالدهر في شرعته يتجاوز الزمكانية المتعارف عليها، إلى اللازمكانية الغائمة في سديم المعاني العصيّة، فدهر الثبات إقامة في الحال، ودهر التحول انتقال من حال لحال، ودهر الدهور انتفاء واستغراق في الوجد حد الزوال. ما كان الرومي كالبسطامي والحلاج، لكنه كان متصوفاً رائياً ومُستطرداً على المدى المفتوح .. قادراً على التفريغ والترويح، وكانت تنتابه لحظات ضنىً ووجد، غير انه لم يكن من الذين يصطلمون ويتبهللون، وكان مبدعاً لأنه تربع في زمن الإبداع، وسيّجه بالهيام والغرام، وحاصره بالعبادة وتمام الحال، والنظر إلى المآل.