ارتبط اسم الأديبة اللبنانية «مي زيادة» بتقاليد الصالونات الأدبية الموروثة من التاريخ، فقد كان صالون مي واحة طوباوية لكبار الأدباء والكتاب في مصر المحروسة، ومن أبرز تلك الأسماء قامات وهامات أسهمت في حركة الإحياء الثقافي النهضوي ومن مواقع مختلفة..نذكر منهم وعلى سبيل المثال لا الحصر عباس محمود العقاد« عبقريات الرسول الكريم والخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي»، وطه حسين الذي ملأ الدنيا وشغل الناس حال كتابته عن أصول الشعر الجاهلي واخضاع الموضوع للشك المنهجي الديكارتي، ومحمد حسين هيكل المؤرخ الاستثناء للسيرة النبوية، وسلامة موسى التواق دوماً لمعانقة الجديد في الفكر الإنساني، وآخرون كثيرون.. كانت مي روح الصالون، والمعادل السحري الذي اجتذبت العقول قبل القلوب، فنالت احترام وتقدير أسماء من الأوزان النوعية التي ذكرنا، بل إن البعض منهم، وكما يقول الرواة هام عشقاً وحباً بهذه المرأة الفاتنة الجامعة للخصال، والسائرة في معارج الدروب الشاقة، فمن إقامة دائمة في النموذج الرفيع للأديب الرائي، إلى الإنسان الطبيعية المهجوسة بعوالم الأنثى الحاضرة في عبقرية الزواج والأمومة والطفولة، لكن تلك العبقرية سرعان ماتشظت وتهمشت عطفاً على تكاثر وهج النجاح واشتعالاته الحامية، وتزايد بورصة العشاق المفتونين، فنستي أنثى التعدد والرحابة ذاتها، وغامت في فضاءات المعاني المجردة، وأدارت ظهرها لفطرتها الأولى، فأصبح كمال الذات موازياً لنقص الآخرين متمثلة قول الشاعر: فلم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام لقد وصلت في حين من الدهر إلى تدوير صداقات افتراضية متباعدة المسافات، فالتبس عليها الفارق بين فارس الأحلام الأدبي، والواقعية الحياتية القاضية بتعايش الأضداد وإن تفارقوا في المعاني، والتقوا عند تخوم العادة ومقتضياتها.. كانت مي حاضرة في قلب المشهد الثقافي النهضوي، رائية وكاتبة، مصانعة في نسيج الأدب ومقتضياته، موهوبة ومتعددة الاهتمامات، لكنها بالرغم من كل ذلك عاشت أحزانها الداخلية الدفينة ، وتقلبت في مراحل التوحد والانتفاء من أجل الآخرين، وحالما عادت إلى لبنان بعد حين من الدهر كشر غول الزمن عن أنيابه، ووجدت نفسها طريحة فراش المرض السيكوباتي المفتعل.. لقد اتهمت بالجنون من أقرب الناس لها، ولولا بعض العارفين الطيبين لمكثت في قبر حياتها الأولى، لكن ذلك لم يتحق لمن استهدفوها، غير أن تلك الضربة الموجعة وماسبقها من عزلة ذاتية اختيارية فرضت على مي حياة برزخية سبقت حياة موتها الفيزيائي، ففاضت بالعبرات، وانتقلت إلى جوار الحق وقد تركت لنا أدباً وتجربة، وقدمت مثالاً فريداً لنساء الذاكرة المتقدة.