حاولت أن أطلق لخيالي العنان واسترجع ماكانت عليه مدينة تعز في بداية الثمانينيات حينما كانت قبلة الشباب الباحثين عن الموضة وعن الجديد. كانت تعج بالحياة الثقافية من مسرح وسينما. تصوروا أن قسماً خاصاً في السينما كان مفتوحاً للعوائل.. واليوم تحولت مقرات السينما في تعز إلى مطاعم للسلتة .. أصبح المسرح غائباً ومكتب الثقافة كأنه جثة محنطة. تقلص الإبداع وأصبحت المدينة وكأنها مسكونة بالأشباح ولا علاقة لها بالحضارة. أصبحت أقرب إلى كونها ركاماً معمارياً واجتماعياً.. مدينة تعيش باسمها، وهي في واقعها، ركام أشياء، لا تكاد ترى فيه بصيصاً للحياة..لقد تحولت تعز بالنسبة لي ولكثيرين أمثالي إلى مجرد ذكرى كانت بالأمس تجذبني إليها، لكنها اليوم قلما تجذبني. المفارقة أن الإنسان في تعز رجالاً ونساء، هم الذين يعطون للحياة معناها وللوجود بشكل عام قيمته. فإنك لن تجد مدينة من مدن اليمن إلا وفيها من أبناء تعز رجالاً ونساء حياتهم نضال متواصل . مدينة تموت من الظمأ في حين أن غابات المصانع التي تحيط بها من كل اتجاه تستهلك كميات كبيرة من هذه المياه لتنتج بعد ذلك زيوتاً مليئة بالكلسترول . والسؤال : لماذا تهمل هذه المدينة ؟ ولماذا أصبحت الصناعة فيها وكذلك الثقافة كأنها شكل آخر للخراب والموت ؟ السماء تمطر دخاناً أسود واليأس يمضغ هذا الجسد المنهك من كل شيء.. هاهو الإنسان في هذه المدينة جامداً والجدار هو الذي يتحرك. آه ياتعز انهم يهدمون الإنسان لكي يبنوا غابة من الاسمنت.. أراك اليوم كامرأة جميلة لكنها متسخة وملابسها ممزقة وشعرها أشعث. آه ماأشقاك. دخان المصانع ينفذ إلى رئتيك ويبقعها من أية جهة، من أي ثقب يقدر المحافظ الجديد ان يدخل إليك. وليس عبثاً أن يكون خلفاء الله حراس العقيدة هم أكثر من يراودونك عن نفسك. انهم يتربصون بك وهم طافحون بالعقيدة وأنت لا يليق بك إلا وجه الحياة المنسوج من غيم جبل صبر الممزوج بعطر الصبريات المتحررات قبل أن تتحرر المرأة في بلادي.. أنت يامدينة الاحلام يوم كنت في عز جمالك علمت الوطن كله لغة مسكونة بالحلم والأمل والعمل.. واليوم بعد ان غبت عن المسرح هاهم يقتتلون. يقتلون الرمان ويدمرون العنب ويزرعون اليأس. لماذا يصر الجميع على القول إنك عاصمة الثقافة اليمنية في حين إنك عاصمة العطش والدخان والأبنية المتلاصقة والشوارع الميتة.. هل يريدون ان يعلمونا أن الكذب هو وحده الصدق؟ حينما نمت أيتها المدينة الجميلة استيقظت عادة القتل في أكثر من مكان. لم يبق لنا منك سوى الذاكرة.. وأنت تمتازين بالنسيان لكي تخففي عن نفسك وطأة المآسي، لكن شواهدك ستظل ذاكرة حية على ذاكرتنا.. ستبقى ولن يطويها النسيان، وستبقى قدرتك على تعليم الآخرين فضيلة التسامح.