الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي لم يملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً بالرغم من كونه عالماً جليلاً قام بتأصيل علوم الدين الإسلامي خلال عمر لم يتجاوز الخامسة والخمسين، فيما ترك لنا كتابه النفيس باسم « إحياء علوم الدين » والذي يعتبر نبعاً غزيراً لمن يريد التعرف على علوم الإسلام وآدابه وعباداته . السيرة الذاتية للإمام الغزالي وتقلباته في معارج الفكر والممارسة ورحابته في التعامل مع مختلف الفرق والطوائف من المتكلمين والمتفلسفين والمتصوفة تكشف ذلك البعد الراسخ في تلك الشخصية المُلهمة «بفتح الهاء» والمُلهمة «بكسر الهاء» ، بالرغم من أن البعض اعتبرها مثلبة بحق الغزالي، متناسين أن الغزالي ما كان له أن يجادل الفلاسفة وأنصار العقل لو لم يتعرف على آثارهم ويتبحّر في علومهم، كما أنه ما كان له أن يقوم بمشروعه الكبير في تأصيل وإحياء علوم الدين لو لم يُمعن العقل والذائقة معاً. في بيانه الهام «المنقذ من الظلال» أظهر الغزالي معنى التطواف في دروب الفكر والممارسة، كما وقف ملياً أمام علوم الحقيقة التي أخذ بها المتصوفة، واكتفى بعرضها مُجانباً الخوض في الجدل الكلامي الذي لا يوصل إلى نتائج ولا يخدم الحقيقة. لقد اتسعت رؤيته للتعددية في الاجتهاد وكان حاضر البديهة في كل أنواع الكلام والرأي، واستطاع بهذا أن يمثل الوسطية الدينية بصورة رائعة، فيما تحول إسهامه التاريخي إلى طريقة للخروج من شرنقة التنافي والتشطيبات المتبادلة بين الفرق الإسلامية المختلفة . المآخذ عليه لم تكن قليلة، لكنها في الغالب الأعم تؤشر لضيق نظر المُنتقدين، فالقول بأنه درس رسائل إخوان الصفا المنسوبة للإسماعيلية الباطنية قول مردود عليه؛ لأن تلك الرسائل إن لم تدرس من قبل العلماء فمن يستطيع تقييم مافيها من رؤى وأفكار، والقول بأنه عرض للصوفية دون انتقادهم مردود عليه؛ لأنه تواضع أمام تلك المقولات والمقاربات الغامضة ، ولم يشأ أن يرميها بتهمة قد تكون مجدّفة بحقهم، والقول بأنه لم يشارك في حروب المسلمين ضد الحملات الصليبية لا معنى له طالما أنه يحارب بالفكر والقلم ، ولم يكن وحيد عصره من العلماء ممن أمسكوا بجمرة المعرفة وخدموا الإسلام من خلاله . تلك هي المقدمات التي أهلت الغزالي وأمثاله إلى الاجتهاد والقياس وتقديم الرأي التاريخي، استناداً إلى الوسطية وعبقريتها ، كما كان أنموذجاً فريداً للمثقف الموسوعي والعلامة المرتكزة على ذائقة تتجاوز البرهان العقلي والمنطقي إلى آفاق روحية واسعة، وهو بهذا المعنى يعتبر أحد أبرز رموز الثقافة الإنسانية ممن يستحقون الكثير من الاستجلاء والمعرفة؛ حتى يتسنى لنا إدراك تلك الجوانب الأكثر قوةً ومضاءً في سيرته وأمثاله من الرائين الكبار.