المآخذ على الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي لم تكن قليلة، لكنها في الغالب الأعم تؤشر لضيق نظر المتكلمين من ذوي النزعة الجدالية البيزنطية، فالقول بأنه درس رسائل إخوان الصفا المنسوبة للإسماعيلية الباطنية قول مردود عليه، لأن تلك الرسائل إن لم تدرس من قبل العلماء فمن يستطيع تقييم ما فيها من رؤى وأفكار. رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء تجمع علوماً شتى، وتقدم لرؤية استسبارية في دلالات العلوم والموجودات، كما تمثل حالة تجسير بين الثقافة العربية الاسلامية، والثقافة اليونانية، وتنطلق بدئياً من وحدة الرؤية للعلوم المختلفة، وهو ما يشكل قيمة معرفية بذاتها. لذلك ليس عيباً ولا مثلبة أن يتم قراءة هذا السفر الهام في ثقافتنا كما يزعم البعض من المتعصبين، بل العكس تماماً. والقول بأن الغزالي عرض للصوفية دون انتقادهم مردود عليه، لأنه تواضع أمام تلك المقولات والمقاربات الغامضة ولم يشأ أن يرميها بتهمة قد تكون مجدّفة بحقهم، والقول بأنه لم يشارك في حروب المسلمين ضد الحملات الصليبية لا معنى له طالما أنه يحارب بالفكر والقلم ولم يكن وحيد عصره من العلماء ممن امسكوا بجمرة المعرفة وخدموا الإسلام من خلاله . تلك هي المقدمات التي أهلت الغزالي وأمثاله إلى الاجتهاد والقياس وتقديم الرأي التاريخي، استناداً إلى الوسطية وعبقريتها، كما كان نموذجاً فريداً للمثقف الموسوعي والعلامة المرتكز على ذائقة تتجاوز البرهان العقلي والمنطقي إلى آفاق روحية واسعة، وهو بهذا المعنى يعتبر الغزالي أحد أبرز رموز الثقافة الإنسانية ممن يستحقون الكثير، من الاستجلاء والمعرفة حتى يتسنّى لنا إدراك تلك الجوانب الأكثر قوةً ومضاءً في سيرته وأمثاله من الرائين الكبار. [email protected]