- د. عمر عبد العزيز .. لم يكن الامام محمد ابن محمد حامد الغزالي من الذين يملأون الدنيا صراخاً وضجيجاً ويشغلون الناس.. لكنه كان عالماً جليلاً قام بإحياء علوم الدين خلال عمره القصير الذي لم يتجاوز الخامسة والخمسين وترك لنا كتابه الأشهر بنفس الاسم «إحياء علوم الدين» الذي تحول إلى نبع غزير يسعف من يريد التعرف على علوم الإسلام وآدابه وعباداته. في حديث سمعته مؤخراً للداعية الإسلامي محمد سعيد رمضان البوطي وقفت على جوانب من شخصية الغزالي وخاصة تلك المتعلقة بسيرته الوجودية وتقلباته في معارج الفكر والممارسة ورحابته في التعامل مع مختلف الفرق والطوائف من المتكلمين والمتفلسفين والصوفية.. وهو الأمر الذي اعتبره البعض مثلبة بحق الغزالي، متناسين ان الغزالي ما كان له ان يجادل الفلاسفة أو انصار العقل لو لم يتعرف على آثارهم ويتبحر في علومهم.. كما انه ما كان له ان يقوم بمشروعه الكبير في احياء علوم الدين لو لم يمعن العقل والذائقة معاً. لقد أظهر الغزالي في بيانه الهام «المنقذ من الضلال» ذلك الترحال في مفازات الفكر والممارسة .. كما وقف ملياً أمام علوم الحقيقة التي اخذ بها المتصوفة واكتفى بعرضها مجانباً الخوض في تلك المحاججات الكلامية التي لا توصل إلى نتائج ولا تخدم الحقيقة. لقد اتسعت رؤيته للتعددية في الاجتهاد وكان حاضر البديهة في كل ضروب الكلام والرأي، واستطاع بهذا ان يمثل الوسطية الدينية بصورة رائعة .. فيما تحول إسهامه التاريخي إلى طريقة للخروج من شرنقة التنافي والتشطيبات المتبادلة بين الفرق الإسلامية المختلفة المآخذ عليه لم تكن قليلة .. لكنها في الغالب الأعم تؤشر لضيق نظر المنتقدين .. فالقول بأنه درس «رسائل اخوان الصفا »المنسوبة للاسماعيلية الباطنية قول مردود عليه لأن تلك الرسائل ان لم تدرس من قبل العلماء، فمن يقول في حقها القول الفصل. والقول بأنه عرض للصوفية دون انتقادهم مردود عليه .. لأنه تواضع أمام تلك المقولات والمقاربات الغامضة ولم يشأ أن يرميها بتهمة قد تكون مجحفة بحقهم .. والقول بأنه لم يشارك في حروب المسلمين ضد الحملات الصليبية لا معنى له طالما انه يحارب بالفكر والقلم ولم يكن وحيد عصره من العلماء ممن أمسكوا بجمرة المعرفة وخدموا الإسلام من خلاله. لقد أحسن الداعية الشيخ/محمد سعيد رمضان البوطي صنعاً بإجلاء جوانب أساسية من سيرة وفكر الامام أبي حامد الغزالي في مثل هذه الظروف التي تحتاج فيها الأمة إلى انعاش ذاكرتها الإيجابية والتأسي برموزها الكبار من أمثال الغزالي رحمة الله عليه. [email protected]