في أوائل التسعينيات انهار الاتحاد السوفيتي وهو ما أدى إلى إعادة ترتيب الخارطة السياسية والجغرافية للجمهوريات المكونة له، وفي ظل إعادة الترتيب والتكوين دخلت المصالح الغربية والأمريكية تحديداً كطرف أساسي مستفيد من الانهيار وبرزت حالة من الاستقطاب الأمريكي للجمهوريات المستقلة وتحديداً للجمهوريات الواقعة في منطقة القوقاز لما تمثله من أهمية استراتيجية بمستواها الاقتصادي والأمني فالمنطقة تجثم على بحيرة من النفط والغاز وتشكل ضغطاً أمنياً على روسيا من الجهة الجنوبية وهو ما أغرى الطرف المنتصر في الحرب الباردة ليضع يده في هذه المنطقة عن طريق جورجيا. جورجيا التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفيتي خاضت حروباً ضد اقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللذين أعلنا انفصالهما عن جورجيا إلا أنها لم تستطع الحسم العسكري لإعادة الاقليمين إلى سيادتها فوقعت في عام 2991م اتفاقية مع أوسيتيا الجنوبية بإشراف روسي على وقف القتال ونشر قوات لحفظ السلام «جورجية أوسيتية روسية» مشتركة،وفي أبخازيا ظل القتال متقطعاً بين القوات الجورجية والقوات الأبخازية حتى سيطرت جورجيا على ممر جودوري الاستراتيجي و توقفت الأعمال القتالية. وفي بداية 8002م وبعد استقلال كوسوفو واعتراف الدول الغربية بهذا الاستقلال رغم المعارضة الروسية طالبت كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالاستقلال أسوة بكوسوفو وهو مادفع بجورجيا إلى تعزيز ترسانتها العسكرية بأسلحة حديثة ومتطورة أمريكية وإسرائيلية وفي لحظة انتشاء وربما بإيعاز من المخابرات الأمريكية قرر ساكاشفلي «الرئيس الجورجي» فرض سياسة الأمر الواقع وإعادة أوسيتيا الجنوبية إلى السيادة الجورجية فهاجمت القوات الجورجية عاصمة أوسيتيا الجنوبية «شخيفالي». هل كانت مغامرة غير محسوبة لساكاشفلي؟ أم أنها كانت محسوبة لكن رد الفعل الروسي لم يكن متوقعاً؟ أو أنه أخطأ في توقع حجم الدعم الغربي والأمريكي الذي يمكن تقديمه له في حالة تدخل روسيا؟ وهل غامر ساكاشفلي بدون علم المخابرات الأمريكية أو الإدارة الأمريكية؟ مالايمكن توقعه أن يتحرك الرئيس الجورجي بدون ضوء أخضر من واشنطن أياً كان مصدر الضوء لأن توجيه رسالة إلى الروس خصوصاً بعد استخدام روسيا لحق النقض الفيتو في القرار الذي كان يستهدف زيمبابوي بأنه مازال بيد واشنطن أوراق يمكن أن تلعبها وتشكل خطراً على الأمن والاستقرار الروسي وربما يكون جس نبض لمدى قدرة روسيا العسكرية في التعامل مع هذا الوضع وقياس مدى ردة الفعل الذي يمكن من خلاله بناء استراتيجيات جديدة قادرة على التعامل مع الوضع الجديد. روسيا يبدو أنها قرأت الرسالة بصورة واضحة فكان رد فعلها مباشراً وقوياً وبصورة لم يكن يتوقعها أكثر المراقبين تشاؤماً.. في ظرف ساعات استعادت القوات الروسية «شخيفالي» وأمام قوة النيران الروسية تركت القوات الجورجية عتادها العسكري الذي مازال في «صناديقه» وعليه نجمة داود وانسحبت من أوسيتيا الجنوبية حتى أن مدينة جوري دخلها الروس بدون قتال لأن الجورجيين أعلن إعلامهم عن سقوط المدينة بهدف تحفيز أمريكا للتعجيل بالدعم فصدق العسكريون الجورجيين ذلك فتركوا المدينة ليدخلها الروس وعلى الطرف الآخر استغل الأبخاز الوضع ليهاجموا القوات الجورجية في ممر جودوري وتحاصر القوات الجورجية وتنسحب بعد ذلك لتعيد أبخازيا سيطرتها على الممر الاستراتيجي لتحقق مكسباً عسكرياً بدون أي خسائر تذكر. تباينت ردود الفعل الأوروبية الأمريكية رغم أن المؤشر الأبرز هو الدعوة إلى وقف القتال وهو ماتمثل بزيارة وزيري خارجية فرنسا وألمانيا لجورجياوروسيا أتبعها الرئيس الفرنسي بزيارة إلى روسيا، فأوروبا تدرك حجم المغامرة الجورجية وهي لاترغب بصراع اقليمي يمكن أن يتحول إلى دولي في منطقة القوقاز التي تمد أوروبا بالنفط والغاز وتقع في حدودها الشرقية وهو ما يشكل خطراً أمنياً عليها بينما رد الفعل الأمريكي جاء منسجماً مع دعوة الرئيس الجورجي لتقديم الدعم لبلاده حين طالب بدعم غربي بالأفعال لا بالأقوال فعملياً سارعت أمريكا إلى إرسال طائرات محملة بالعتاد العسكري والجنود الجورجيين الذين كانوا في العراق بهدف دعم القوات الجورجية على الأرض وسياسياً وأمنياً سارعت بالتوقيع على اتفاقية نشر الدفاعات الصاروخية مع بولندا وهي الاتفاقية التي كانت محل مساومة بين واشنطن ووارسوا تتعلق بحجم الدعم العسكري الذي ستقدمه أمريكا للجيش البولندي وبنفس الخط أعلنت أوكرانيا عن إمكانية ضم انظمتها الصاروخية لأطراف أجنبية وهو تلميح بإمكانية الدخول في اتفاقية الدفاع الصاروخي الأمريكي وطلبت من الأسطول الروسي في المياه الاقليمية الأوكرانية تقديم مايفيد بتحرك الأسطول مسبقاً، وسياسياً حذر بوش روسيا من الاستقواء لأن ذلك سيدفع إلى المواجهة وهو مؤشر واضح أن واشنطن قرأت الرد الروسي بصورة واضحة وأن روسيا 8002م لم تعد روسيا «0991م»اقتصادياً استعادت قوتها وتفوقها بما تمتلكه من مخزون للطاقة بما لايستطيع أحد تحديده وعسكرياً استطاعت إعادة بناء قدراتها العسكرية بصورة فعالة لذلك كان رد الفعل الأمريكي مُستفزاً الأحداث في القوقاز أثبتت عدم قدرة المنظمة الدولية - الأممالمتحدة ممثلة بمجلس الأمن على التعاطي إيجابيا مع القضايا الدولية التي يكون أحد أطرافها دولة عظمى فالمشادة الكلامية بين سفيري روسياوأمريكا في مجلس الأمن أفضت إلى تعطيل دور المجلس وهو مايعزز من المطالب التي تدعو إلى إعادة هيكلة الأممالمتحدة وفق المعطيات الدولية للقوى الجديدة وتفعيل روح العدالة بين الأمم والشعوب بما يحقق للشعوب الفقيرة والمستضعفة الحد الأدنى من الحقوق،كما أن وضع أسس ومعايير محددة لاستقلال أو انفصال الشعوب بعيداً عن ازدواجية المعايير التي تخضع لمصالح الدول الكبرى وتبقى جميع دول العالم تحت رحمة هذه الدول متى ما أرادت إثارة مشكلة في أي دولة شجعت على المطالبة بالانفصال فتحول هذه القضية إلى وسيلة للابتزاز تمارسه الدول الكبرى ضد الدول الصغيرة لتحقيق مصالحها. من النتائج التي يمكن استشرافها:انضمام جورجيا لحلف الناتو وتطوير مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا وممارسة مزيد من الضغوط السياسية على روسيا في الهيئات الدولية التي كانت تطالب روسيا بالانضمام إليها مثل منظمة التجارة العالمية وهو مايعني دخول حرب باردة جديدة بين محورين الأول: محور أوروبي أمريكي والثاني محور صيني روسي ومعه سيدخل العالم مرحلة جديدة من الاستقطاب والاستقطاب المضاد.