قاربت ثورة سبتمبر عقدها الخامس، وهي تزداد قوة ورسوخاً، والمطلوب اليوم هو إعادة اكتشاف الثورة ومبادئها وإدراك حقيقة المخاطر التي تحدق بها في هذه اللحظة التاريخية التي تتطلب ضرورة التكاتف ومواجهة التحديات والمؤامرات. ومن الواجب علينا اليوم أن نعيد قراءة الثورة على مختلف المستويات والتوجهات من باب البناء ومتطلب المرحلة ورؤى المستقبل دون التهوين من شأنه أو التهويل والتشويش لدورها الفاعل أو مجرد التوقف عند الشعارات وحدها حول الأمجاد. وما سأسطره هنا يعد دعوة لتأصيل ثقافة الانتماء والمواطنة، فقيم المواطنة وحب الوطن يحمينا من الرياح العاتية التي تستهدف اقتلاعنا من جذرنا، وغياب حب الوطن بجعل المجتمع مخلخل البناء، ومنفلت السلوك ويضعف متانة الروابط بين أبناء الوطن ويدمر روابط القربى ويمزق صلة الرحم. بعد 46 عاماً من الثورة لا نستطيع أن نستوعب كيف تحول البعض منا إلى وحوش تنهش لحمنا وتمتص دمنا.. لا ندري أي نوع من الكائنات هؤلاء الذين كأنهم ما ذاقوا ملح اليمن ولا خبزها. وإذا كان اليمنيون البسطاء قد تكونوا في رحم الوطن الدافئ المقدس، ففي أي مكان يكون هؤلاء الفاسدون..؟ وإذا كان الجميع قد رضع حليب الوطن المبارك.. فماذا رضع الفاسدون؟ وإذا كان الجميع قد تلقوا معارفهم وتمييز الصواب من الخطأ والخير من الشر في مدارس الوطن وجامعاته، فأين تلقى الفاسدون فسادهم؟ لاشك أن غياب الارتباط الوطني يدفع بالبعض إلى التعامل مع الوطن وكأنه عبارة عن شركة وليس وطناً يمتد خيره للأجيال القادمة.. إننا أمام شريحة من الناس تتعامل مع الوطن بشهوة الرغبة في تحقيق متطلباتها بشكل استفزازي مما يدفع نحو خلق مجتمع غير منضبط. إذاً الأمر يستدعي منا قراءة ثورة سبتمبر من كل الزوايا والجوانب والأبعاد والنتائج بقدر ما تستحقه من التقييم الموضوعي المحايد في ضوء المتغيرات. لقد انتجت الثورة أكثر من عشر جامعات.. لكننا أفرغنا هذه الجامعات من دورها الحقيقي وحولناها إلى جامعات لتفريخ الشهادات والشعارات حتى ظهرت الفجوة بين الشعار والواقع تساوي المسافة بين الأرض والسماوات السبع. ونتيجة لذلك ظهرت طبقة طفيلية تتاجر بالوطن وبالناس أصبحت تملك ثروات تفوق ثروات الوطن نفسه، أما على المستوى السياسي فقد ظهرت جماعة سياسية أدخلت البلاد في مجال الصراع السياسي بحيث أصبحت جماعات المصالح ومراكز القوى القبلية ليست فقط جماعات للضغط والتأثير وإنما أصبحت هي المتحكمة بالحراك السياسي، هذه الجماعات تضخمت حتى أصبح من غير الممكن وقف نموها.. وأمام هذا وذاك تشكلت جماعة أساتذة الجامعات الذين امتلكوا بعضاً من التنظير وغاب العمل والتطبيق.. أما المثقفون وقيادات العمل المدني فهم واقعون بين المدح والقدح والتبرير أو التشهير.. يظهر واضحاً أن هذه الجماعات يغيب عنها السياسيون المحترفون، وهذا لا يعني أنهم غير موجودين وإنما يعود السبب لإقصائهم من قبل كل الجماعات ونتيجة للمفاوضات القائمة بين كل الجماعات سالفة الذكر من أجل تكوين ائتلاف سياسي معبر عن مصالح معينة. غياب هذه الجماعة من السياسيين المحترفين هي التي أوجدت هذه الحالة من المفارقات ، فالثروة في بلادنا يمتلكها أشخاص غير منتجين لهذا المال ولم يشاركوا في تراكم رأس المال الوطني فبدلاً من تنظيم الاستثمار وتحويل الأرض الجدباء إلى إعمار إذا بهم ينهبون الأرض ويقومون بتوزيعها على أهل الثقة. ومن المؤكد أن ما نحتاجه اليوم هو رد الاعتبار للثورة بخلق طبقة سياسية تجسد العملية الديمقراطية وتمنع الممارسات والجرائم اللاإنسانية واللا أخلاقية والتي تصدم مشاعرنا كل يوم المتمثلة في القتل أو اغتصاب الأرض وغير ذلك مما يعد جرس إنذار ينبهنا إلى مخاطر ثقافة الاستيلاء على حقوق الآخرين بدون وجه حق. والسؤال الذي يطرح نفسه : ما الذي يجعل مواطنا يمنياً من أبوين يمنيين شخصاً فاسداً وحاقداً على وطنه؟ الوطن يضخ الخيرات لتبقى رؤوس أبنائه عالية.. والبعض يفعل المستحيل لتدميره.. الوطن يفعل المستحيل لتحصين أبنائه بالعزة والكبرياء والبعض يعمدون إلى تمزيقه وتدميره. هؤلاء الفاسدون كائنات غريبة، يتعاملون مع الوطن وكأنه شركة يجب تقاسمها أو كأن لهم ثأراً قديماً مع الشعب.. حقدهم بلا حدود لا يرون في الوطن إلا ما يخصهم ويعتبرون الوطن متجراً كبيراً يجب نهبه ، وحدوده ماهي إلا مساحات مفتوحة للتهريب وساحة للفساد فلتبقَ الثورة نوراً يضيء لنا طريق الحق والعدل والمساواة بين أبناء الوطن وحصناً آمناً لكل الوطنيين الشرفاء وأداة تفضح أولئك الذين يتعالون على القانون ويشوهون العملية الديمقراطية، فبالثورة وأهدافها نستطيع أن نتقدم إلى القرن الواحد والعشرين.. ولا بديل أمامنا سوى إعادة قراءة تاريخ الثورة للمضي قدماً في عملية الإصلاح الاقتصادي والسياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية وسيبقى إيماننا بعراقة هذا الوطن قائماً وسنواصل دورنا وجهودنا من أجل السلام الاجتماعي.