التاريخ الإسلامي له عبقه الخاص الذي يميزه عن غيره، فهو زاخر بما يحويه من أعلام في كل مجالات الحياة، في العلوم الطبية والرياضيات والفلك وفي التاريخ العسكري والسياسي ونظام الحكم.. أعلام كانوا فاتحين دانت لهم البلدان وخضعت لهم شخصيات ودانت لهم رقاب ظالمة فدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه. ومن هؤلاء الرجال الإمام الفاتح هارون الرشيد حيث كان خصومه قد كالوا له الكيل وقدحوا فيه ظلماً وبهتاناً، حيث اتُّهم بالمجون كذباً وزوراً وما هو إلا تلفيق لغرض التشويه، ومثل هؤلاء النفر من الناس ليس لنا من قول فيهم إلا أن نقول:إن في قلوبهم مرضاً لأنهم بسيرتهم هذه قد لبسوا الإفك لبساً وكأن البهتان ديدنهم عندما كذبت لساسينهم بالقول: إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ذا لهو ولعب ومجون.. وهذا هو تاريخهم الأسود ولا يفعل ذلك الا من احتمل بهتاناً وإثماً عظيماً، وإلاَّ فكيف وقد اتصف هذا الرجل واشتهر بأنه الأمير الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً آخر، وهو من كان يتصدق من حر ماله في كل يوم بألف درهم وأجزل من ماله لكثير من الشعراء والفقهاء.. وتحكي كتب التاريخ أنه كان يصلي في اليوم الواحد مائة ركعة تطوعاً إلى أن فارق الحياة.. كان إذا حج يحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وله في صفحة التاريخ العسكري الجهادي صولة وجولة لايخاف في سبيل الله لومة لائم وإن كلفه في سبيل ذلك ما كلف. ونقطف من هذه الثمار ثمرة واحدة عندما نقضت الروم الصلح مع المسلمين حيث كان الروم قد ملكوا عليهم رجلاً شجاعاً يقال له النقفور وفي رسالته المشهورة الموجهة إلى هارون الرشيد نقتبس بعضاً مما جاء فيها حيث قال في رسالته: «من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد..فإن الملكة التي كانت قبلي حملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن.. إلى أن قال في كتابه فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إليّ ماحملته إليك من الأموال «يقصد الملكة التي كانت قبله» إلى أن قال: وأفتد نفسك به وإلا فالسيف بيننا وبينك..» فلما قرأ هارون الرشيد كتاب نقفور أخذه الغضب ودعا كاتبه وقال له: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك ياابن الكافرة والجواب ماتراه لا ماتسمعه والسلام» وبدأ بتجهيز الجيش وبدأت المعركة وكان المنتصر فيها، وهو الأمير الذي خاطب السحاب عندما كانت أموال بيت مال المسلمين تُحمل إليه من كل الأقاليم، بعد تكفية الجيوش إلى بيت المال على بعد المسافة وكان يستلقي على قفاه وينظر إلى السحابة فيقول قولته المشهورة: «اذهبي إلى حيث شئت فإن خراجك سيأتيني بإذن الله» كان يخضع للكبار خصوصاً منهم أولو العلم إلى حد أنه يغسل يد ضرير بنفسه قائلاً في ذلك: إنما أردت في ذلك تعظيم العلم، وقد كان من ضمن وعاظه الذين يعتمد عليهم الإمام الشافعي رحمه الله. ولأمير المؤمنين هارون الرشيد حكايته المشهورة مع ابن السماك عندما طلب من ابن السماك أن يعظه بعد أن كان قد طلب شربة ماء، فقال له: بالله ياأمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة منك بكم تشتريها قال: بنصف ملكي، قال: لو منعت خروجها بكم تشتريها قال: بنصف «ملكي» الآخر فقال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماء لجدير أن لاينافس فيه فبكى هارون، وهذا هو أحد شعراء أمير المؤمنين المشهورين إنه أبو العتاهية دعاه في يوم من الأيام وطلب منه أن يصف له ماهو فيه من العيش والنعيم فقال أبو العتاهية: عش مابدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور تجري عليك بما اشتهيت من الرواح إلى البكور فإذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقناً ماكنت إلاَّ في غرور فبكى الرشيد بكاءً كثيراً وكان أحياناً أخرى يخر مغشياً عليه. وأخيراً فإن الرشيد هو من أمر بحفر قبره في حياته وهو من قال في لحظاته الأخيرة من حياته: «يامن لايموت ارحم من يموت». وبعد هذا ليس لنا من قولنا هذا إلاَّ أن نقول: رحم الله أمير المؤمنين هارون الرشيد يوم ولد ويوم عاش ويوم يبعث حياً.