عندما كتب العلامة «الفارابي» دفتراً صغير الحجم كبير القيمة وسماه «رسالة الألوان» لم يكن في توصيلاته واستنتاجاته مجافياً لرؤيته الشاملة الناظرة إلى موسيقى الوجود المبثوثة في الأجواء والكائنات والظواهر، والشاهد أن الفارابي الفيلسوف كان رياضياً وموسيقياً وفلكياً مع إقامة دائمة في وحدة العناصر الفنية وتناصّها وتحولاتها العارمة، ولهذا جاءت رسالته الاستثناء في علم الألوان .. تلك الرسالة التي بقدر اختصارها اشتملت على مفهومات ومقترحات غير مسبوقة، وقد انطلق الفارابي في ماذهب إليه من مركزية «الأسود» والذي لايعتبره لوناً، بل يجيره على العتمة والظلام، وبالتالي اعتبر الأسود مُعادلاً سحرياً لبقية الألوان التي تظهر في أي صورة، بما يذكرنا ب «مفتاح صول» الموسيقى. وبالرغم من أنه لم يقر صراحة بأن الأبيض لون مُحايد يتماهى سطوعاً ودكونة مع بقية الألوان، إلا أنه وضع اللون الأبيض في مصاف الألوان دونما تمييز كذلك المعهود في المدرسة الأوروبية . ماذهب إليه الفارابي إشارة إلى أن البهاء يخرج من دياجير الظلام وينبثق من تضاعيف العتمة.. قال الشاعر يصف موقعة «عمورية» بين العرب والروم : غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحىً يشلُّه وسطها صبح من اللهب حتى كأن جلابيب الدُجى رغبت عن لونها أو كأن الشمس لم تغب وهكذا نلاحظ أيضاً قوة الشفق في المغيب، وكيف ينجلي بكامل رونقه الصاعق عندما تكون عناصر البعد الأول في المنظر غارقةً في الظلام الدامس، كما نلاحظ درجة الاشتعالات المُبهرة في ألوانها عندما تتفجر البراكين في غسق الدجي .. يقول الشاعر: وقد نبّه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كُنّ بالأمس نُوّما كان الفنان «رمبرانت » من أكثر المصورين استغراقاً في استنطاق اللون الأسود، وقد ترسّم بهاء الألوان المشرقية الموصولة بشموس الشرق، واستدعى قوة «التضاد» بين الضوء والظل بطريقة مُمْعنة وباحثة عن تعبيرية اللوحة، وقد أضحى «رمبرانت» بحق مدرسة دالة في أُفق التعبيرية الفنية التي تستلهم مداها الراكز من قوة الظل وإيحاءاته المُفضية إلى ألوان الطيف وموسيقاها الأبدية . وفي أُفق آخر تداعى «ديلاكروا» مع ذات الأُسلوبية مع قدر كبير من الغيم البصري الهارموني ودونما إغفال لمركزية اللون الأسود. أما الفنان الصاعق المحترق « فان جوخ » فقد انعطف بكامل التيار الانطباعي في مدرسة التصوير الأوروبية ليشتعل مع محارق الألوان وسطوعاتها النارية، وما كان له أن يفعل ذلك بدون استدعاء الدكونة وترميزاتها البصرية اللامتناهية، تلك التي اشتعلت في أعماقه قبل أن تنتقل إلى سطح القماش . في جُملة الصور التي نراها مع هذا المقال يمكننا ملاحظة قوة التعبير القادمة من مركزية اللون الأسود الذي سماه الفارابي « أسود» فحسب ولم يعتبره في عداد الألوان، وقال بأنه رديف الظُلمة، وإنه المُعادل لكل ظهور لوني آخر، وهكذا جنح الفارابي إلى مايقوله «النفري» استنطاقاً لقوة المثال «بكسر الميم» في دواخل الانسان .. يقول النفري: وقال لي : قع في الظُلمة، فوقعت في الظُلمة، فأبصرت نفسي !! . وفي لطيفة أخرى من لطائف السّير يتحدث «نيلسون مانديلا» عن فترة سجنه المديدة بوصفها سبباً حاسماً في قوة جسده وروحه، فقد خرج من ظلام السجن ليكون بشيراً للسلم والتضامن والإخاء، لا الكراهية والعنصرية والبغض. هذا تكون العتمة رديفة «العماء» الذي يؤذن بانبثاقات وتجليات لاصلة لها بمكان وزمان مُحددين، بل بإشراقات نورانية تصلنا من كل الجهات دونما فرق .. يقول الشاعر: رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق ولو لاح غربياً لحنّ إلى الغرب فإن غرامي بالبروق ولوحها وليس غرامي بالأماكن والتُرب