حتى ونحن في عصر الفضائيات والانترنت، والموبايل، والقرية الكونية مازالت بعض مواريث الماضي السلبية تقضّ مضاجع الحياة اليمنية، أو بالكاد يتزحزح منها شيء رغم قدرة المجتمع المذهلة على التكيف، ورغم أنه شبّ عن طوق العزلة، وهناك الملايين من أبنائه منحتهم تجارب الاغتراب فرص الاحتكاك بمجتمعات متحضرة! البعض يرمي بمسئولية القضاء على تلك المواريث على عاتق الدولة، فيما يجعلها البعض الآخر مسئولية الأفراد، أو يقذف بها إلى المستقبل ليتكفل بها الزمن، أو يعتبرها مهمة مشتركة بين الجميع.. غير أنها في الحقيقة تبدو أكثر تعقيداً، حيث إن طول الحقب التاريخية التي جثت فيها اليمن تحت نير العهود المظلمة رسخت تلك المواريث السلوكية في مفردات الحياة اليومية للإنسان والمجتمع اليمني، حتى تحولت إلى ثقافة أجيال، وجزء من هويتها. من الصعب جداً أن نطالب اليوم المجتمع بالتخلص النهائي من ثقافة حمل السلاح، أو تعاطي القات، أو اللجوء إلى التحكيم القبلي، أو منع المشائخ من الترحال بمرافقين مسلحين، وغيرها من الممارسات، لأن كل ذلك بات مرتبطاً بكثير من التفاصيل اليومية للفرد والمجتمع.. فهناك جيل يدفع بلاء الأخطاء التي يرتكبها بتحكيم الطرف الآخر بالبنادق.. ويرحب بضيوفه باطلاق الرصاص.. ولا يسمح للعروسة بدخول بيت الزوجية إلا بالقفز من فوق بندقية تُطرح على عتبة الدار، أو المرور من تحت بندقية لدى البعض الآخر.. وهذا الجيل أيضاً يستحيل أن يفهم وجود شيخ بلا بندقية، أو بلا مرافقين ، فذلك لديه قمة السخرية.. فمثل تلك المظاهر جزء من تقليد أو عرف قبلي لا يقل أهمية عن دستور الدولة نفسه بتقدير أبناء ذلك الجيل.. وهكذا يسري الأمر على بقية المواريث التي ترى الدولة، أو بعض المنظمات، والقوى الثقافية أنها تترتب عنها أضرار، ونتائج سلبية كثيرة، وتطالب بإنهائها من المجتمع. ولكن السؤال الذي نطرحه هو: هل معنى ذلك أن يستسلم الجميع أمام ظاهرة مثل حمل السلاح رغم كل الويلات التي تجرها على المجتمع!؟ والجواب بكل تأكيد هو النفي، إذ أن هناك مسؤولية أمام الجميع بالحد من هذه المواريث من خلال تنمية ثقافة مجتمعية تنبذ هذه الممارسات وتنشئة جيل على تقاليد وقيم مدنية عصرية متحررة من موروث الأجيال السابقة «السلبي». عندما نتأمل واقع حياتنا اليوم، نكتشف أن المجتمع فعلاً متجه إلى بناء جيل عصري، واعٍ، يؤمن بمناهج الحياة المؤسسية.. فاليوم قليل جداً من الشباب يتزوجون على تقاليد الأجداد، وقليل جداً منهم أيضاً يميلون إلى حمل السلاح، والغالبية العظمى أصبحت تتعاطى حتى مع «الجنبية» كقطعة تراثية للمناسبات.. وهناك فئات كبيرة تقاطع القات وتشغل أوقاتها بممارسات مختلفة.. كما أن المدن اليمنية نفسها آخذة بالتحول إلى أنماط حياتية جديدة، وظهرت في أسواقها محلات وأماكن لا يليق دخولها بالسلاح أو مع كيس القات ، كما هو الحال مع مقاهي الإنترنت، والنوادي والقاعات الثقافية... وغيرها. وبالتالي، فإن المعركة مع الموروث السلبي دائرة، لكن ليست بالشدة التي يطمح إليها الكثيرون، لأن الإمكانيات المادية الضعيفة للبلد تعيق إقامة بنى تحتية واسعة تزاحم الموروث الثقيل ، فمحدودية النوادي والحدائق والمراكز الثقافية الفنية، وحملات التوعية والتعبئة وغيرها كلها تمثل تحديات أمام اليمن في إحداث نقلة انقلابية سريعة على المواريث السلبية. ومع هذا فإن التحولات القائمة حالياً كبيرة أيضاً، ولكنها بحاجة إلى توازن إيجابي بين المدينة والريف من أجل تفادي أي فجوة محتملة قد تؤدي إلى نتائج عكسية.