كثيراً ما نصطدم بوجوه في زحام الأمكنة ، ولكننا ونحن نأتلف مع أحدها لتختفي في لمح البصر قبل أن تستعيدها الذاكرة الخوّانة لنستعذب هذه اللحظة الخاطفة ونغزل منها صوراً تتداعى سريعة في لقطات تخييلية، شخوصها نابضة بزمنٍ نابضٍ بروح لحظة اللقاء الأخير وبدء حركة الحياة في وداعها اللامنتهي ، نذهب في استعادة تلك الملامح التي تتشكل مع بقية عناصر الصورة - الواقع السارد إن جاز التعبير - إذ أن استعادة الزمن المفقود لا يكتمل ملامحه إلا ببقية العناصر التي كانت محفزاً يغري تثبيت تلك الوجوه التي عادت من خلال وجه في الزحام. ومن جميل مثل هذه الخطرات التي تأتي وأنت تعيش زحامين في آن معاً ، شارعاً وحياةً ، أن الواقع وهو يمسك بلحظة التوق لحكي الواقع ما كان ليوصله بما هو كائن بسلاسة مرة أو عنوة مرات يكاد يهيمن كراوٍ كلي الرؤية يدرك خفايا ذاتك وهي تأنس لتلك الذكرى أو تبتئس لذلك الموقف الذي وقفته يوماً وصرت في غيره بعد أن زالت المنفعة والمصلحة فتتجسد لديك (حكاية حياة) تلوذ بها من تعب الساعة ، ولكن (الراوي الواقع) بإدغامه في الماضي وتمدده في الحاضر وانطلاقه إلى المستقبل لا يكف عن إعادة ترتيب الأحداث في سياق زمني يمتلكه وتقنيات سردية لا تتواشج وسيرة حياتك التي مشيتها خطى لا بد من السير فيها ، واقع راءٍ يكثف الزمن تكثيفاً شديداً ليلتقط تفاصيل مشاهد قد تكون لحظتئذ غير عابئ بها ، لتغدو اليوم محركة لبقايا الصور والمشاهد التي لازمتك سنين حياتك. لذا نجد أنفسنا وقد شدّتنا حكايتنا القديمة الجديدة ودفعت بنا إلى أغوار سحيقة في الذات لم نألف التحاور معها أو الاستماع إلى همس صوتها القادم من الذات الأولى في زمن البراءة وتشكلها النقي ، فوجه الزحام الذي تلاشى ولم تستطع الإمساك بتلابيبه لتتذكره وتعود إلى جادة الطريق الطويل هو الذي تناثر أشلاء وجوه مبعثرة، ليس بالسهل لملمتها وقد أصبحت جزءاً من هذه الوجوه التي انشطرت إلى جزيئات تتراقص في فضاء المكان المتخيل الذي صار يهيمن عليه زمنك الماضي بوصفه بطل الحكاية ومستدعي الشخوص ومحركها كعرائس الأطفال من خلف ستار يلاعبها كيفما يشاء وينطقها وفق ما يريد ، فتدخل شئت أم أبيت إلى ذلك الفضاء المكلل بأحداث تستعيدك دون (رتوش وأصباغ) وضعتها كقناع تتخفى فيه من سياط الآخر الذي كنته وحاولت الهروب ولكن جاء وجه في الزحام ليعيدك إليه.. وكفى!.