خرجت بريطانيا من الأرض اليمنية، لكنها ظلت عالقة في الوعي والمصالح والصراعات والتباينات بين الإخوة الأعداء ودعاة الاستقلال في الساحة، ما تركت أحداً يعمل بعد خروجها بجد واجتهاد وإخلاص لتحقيق الاستقلال الذاتي والموضوعي في الواقع المعيش.. إذا جلست لتستمع إلى حكايات من شارك أو شاهد أو عاصر تلك المرحلة الثورية وما سبقها وما لحق بها من أحد لرأيته يتحدث تلقائياً عن بريطانيا وكيف أرست نظماً إدارية لا مثيل لها في منطقة الجزيرة والخليج كلها، ثم إذا سألته عن ذاك المنجز البريطاني العظيم - حسب تعبيره - وكيف تبخر لرد عليك أنه رحل بصحبة آخر جندي بريطاني من عدن. ماذا بقي في الواقع الاجتماعي من ذلك المنجز؟ لا يجيبك أحد، سيعيرونك الصمت أو يحيلونك إلى خارطة وسنوات وأطراف الصراع الدموي، حيث أحيل الاستقلال إلى مربعات تجاذب وعنف أخوي لا مكان فيه إلاّ للدمار والتخريب. أربعة عقود مضت على خروج آخر جندي بريطاني من جنوباليمن المحتل، مازلنا نتلمس طريق الاستقلال وبناء الذات الوطنية، الأمر يتطلب منا قراءة واعية وعميقة لمتطلبات ولوازم الاستقلال. لماذا لم نتحرر بعد من عقدة الصراعات وثقافة التآمر التي مازالت مسيطرة على وعي وسلوك الكثيرين منا، الإقصاء والتخوين وفساد الضمير والفهم مازال هو الآخر سيد الموقف. حيث عاد كل منا يستنفر قبيلته ومنطقته، لا لتتميز بالإنتاج والعطاء والتسامح والتماسك الوطني، ولكن ليتمترس بها ضد الدولة والنظام والقانون. نزلنا من قمم الجبال وشعارات الثورة وتطلعاتنا للاستقلال ليقصي بعضنا بعضاً، ويغتال كل منا من يخالفه في الرأي. آمنا بالثورة والتغيير الواقعي لمجتمعنا ووطننا اليمني كله؛ ثم إذا بنا نكفر بها جهاراً نهاراً، عدنا نعتصر أهداف الاستقلال الوطني حقداً وكراهية بين بني قومنا. دماء الشهداء وتضحياتهم العظيمة في سبيل التحرر الوطني والاستقلال الذاتي، والنهوض والتطور الاجتماعي، والحلم الوحدوي اليمني، مازالت طرية تستحثنا وتطالبنا بأن ننتصر للوطن اليمني من أنفسنا، وذواتنا، وصراعاتنا التي لا تنتهي ببعضنا إلاَّ وقد فقد صوابه وغلَّب مصالحه وحقده وكراهيته للبلاد والعباد، ذهب يستجدي الخارج ويستقوي به ضد وطنه وأهله. لم نرسخ بعد في وعينا وسلوكنا وذاكرتنا الاجتماعية وعقول أجيالنا اليمنية ثقافة الاستقلال الحقيقية. تركنا الأمر للزمن والمراحل التالية، بقيت ثقافة الصراعات والتمرد هي الغالبة، حالت دون بلوغنا الرشد الوطني فانعكس ذلك على حياتنا ومسيرتنا التنموية. المرحلة الوحدوية أملنا لكي نعزز واقعنا الاجتماعي بالوعي والممارسة السليمة، ونتخلص من رواسب الصراعات والخلافات والأحقاد. وفرصتنا لنمارس التغيير السلمي للحياة، ونبرهن أننا نسير حقاً باتجاه الاستقلال الجوهري لوطننا، نجسده في تعددنا الحزبي وحواراتنا السياسية وسعينا جميعاً للنهوض باقتصادنا وانتصارنا للأصلح واحترامنا للإبداع والتميز. التغيير والاستقلال يبدأ من المواطن البسيط وقدرته الكاملة على اختيار الأفضل ووعيه بحقوقه الدستورية وواجباته الاجتماعية وأي رهان على غير ذلك يبقى الأمر شعارات وصراعات لا تنتهي.