من يصدق أن الصين وهي تنهض هذه النهضة القوية استطاعت في النهاية أن تجبر أولئك المتربعين على عروش الصناعة والتجارة والزراعة والتكنولوجيا أن يتفسحوا في المجالس، ليفسحوا لها مكاناً بينهم يليق بمقام المجتهدين والمثابرين والصابرين والصامدين في وجه مصاعب الحياة وضنك المعيشة وقهر الأعداء؟!.. من يصدق أن الصين هذه، كانت قبل ستة عقود أو زهائها يشار إلى شعبها أنه صريع الأفيون، وأن الكثيرين من أفراد هذه الأمة العظيمة كانوا يعيشون عيشة «المساطيل» بسبب إدمانهم «الأفيون» الذي فرضته بريطانيا بقوة السلاح وقوة النفوذ والجبروت الاستعماري على الصينيين، لكي تربح من تجارته الملايين ويذهب الصينيون في سبات عميق، بل في غيبوبة دامت طويلاً، بسبب تأثير عقار الأفيون على عقولهم ومعنوياتهم وآمالهم وطموحاتهم؟!. كان هناك في الصين عقلاء وحكماء وأدباء ومفكرون أذهلهم ما آل إليه حال أمتهم من ضعف وذل وهوان، فلم يلبثوا مستكينين إلا قليلاً بسبب تأثير سحب الأفيون القاتمة على سماء الصين، حيث استطاعت تلك السحب الكئيبة أن تلقي بظلها على عقول المفكرين فتمسخها، وعلى بصائر الحكماء فتعطلها.. فكان المفكرون والحكماء والكتاب والأدباء يرون المريض أمام أعينهم بأنه يعيش لحظات احتضار لا أمل له في الشفاء إلا إذا انقشعت تلك الغيوم التي صنعها «الكيف» من فوق سمائهم.. حينذاك فقط استشعروا هول الخطر على أمتهم، أحسوا بهول الفاجعة من المصير المرعب الذي ينتظر أجيالهم القادمة إذا استمر حال الأمة كما يريده لها أعداؤها في الداخل وفي الخارج. وكانت الأمة الصينية قد وصلت إلى حال من الضياع، حيث فقد شبابهم وفتياتهم الشعور الوطني في أن يكون لهم أي دور في بناء وطنهم أو يكون لهم دور في نهضة الأمة وصناعة المستقبل، فاعتبروا أنفسهم جزءاً من الكم الضائع الذي فقده الوطن منذ أن سمح العقلاء والحكماء في الصين للأفيون أن يسيطر على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حتى لقد صار ل«الكيف» أو الأفيون في الصين رجاله البشعون ودهاقنته وتجاره ومروجوه والمدافعون عن بقائه، بحجة أنه يعول أسراً كثيرة ويعتمد على تجارته الكثير من الشباب والأسر.. هكذا بصورة علنية تحت حماية الانجليز وأعوانه وعملائه. ولكن ذلك الحال لم يستمر طويلاً؛ لم يلبث الصينيون حتى تذكروا أمجادهم القديمة، تذكروا ماضيهم التليد والمشرق، وتذكروا تاريخهم وعظمة أمتهم، فعلموا أنهم قد أُخذوا على حين غرة ليس من الانجليز وحدهم وإنما أيضاً من بني جلدتهم الذين هيأوا للمستعمرين أن يضربوا ضربتهم في تخدير أمة بحالها، فكان ذلك إيذاناً بصحوة عظيمة.. فبدأ العملاء من أعوان الانجليز وتجار الأفيون يتساقطون بالعشرات والمئات، لتتساقط مع سقوطهم أوراق الأفيون حتى غطت شوارعهم وأحياءهم، لتتضافر الهمم والأيدي والعقول في كنس أوراق الأفيون إلى أعماق البحار وما تبقى منها ألقموها تنّينهم. ولأننا لا نريد أن نشبّه القات بالأفيون، إلا أن هناك من الخبراء والعلماء وأصحاب الرأي المحايد يؤكدون أن مجال تأثير القات لا يختلف عن مجال تأثير الأفيون أو الحشيش أو الهيروين أو ما شئت من هذه المسميات، وأن الاختلاف بينها جميعاً هو في درجة التأثير وليس في نوع التأثير كما هو الحال في الاختلافات الموجودة بين أنواع الخمور، فالبيرة على سبيل المثال تختلف عن الوسكي والشمبانية والفودكا في مقدار نسبة الكحول فقط، أما التأثير على الجهاز العصبي وعلى خلايا المخ فهو تأثير واحد يزيد أو ينقص في الشدة «شدة التأثير» حسب نسبة الكحول في كل منها.. وبصرف النظر عن مكونات المادة الأولية الفعالة في أوراق القات وأغصانه، إن كانت تختلف عن بقية المخدرات في المسميات إلا أنها تتفق معها في التأثير على المخ والجهاز العصبي والنفسي. هناك ثلاث فئات رئيسة في الساحة اليمنية تدافع عن القات: الفئة الأولى: كبار المزارعين للقات من وجهاء اليمن وأعيانها ومشايخها. الفئة الثانية: موالعة مدمنون لا تفارقهم الكوابيس إن هم توقفوا عن تعاطي القات. الفئة الثالثة: مأجورون في الوظائف العليا تقع عليهم مسئولية الدفاع بشراسة عن أهمية وجود القات لليمنيين والتصدي لأية محاولة للحد من زراعته، تجدهم يتشدقون بكل العبارات.. يتحدثون عن أهمية القات للاقتصاد اليمني وفي حقيقة الأمر هم يدافعون عن مصالحهم الذاتية. فهل حان الوقت أن يتذكر اليمنيون تاريخهم وماضيهم التليد والمشرق وأمجادهم القديمة ليتخذوا منها نبراساً يضيء لهم دروب المستقبل، ويستخدموا ماضيهم كرافعة تنتشلهم من قيعان التخلف والضعف والجهل في حالة الخمول والكسل الذي أورثهم إياها تعاطي القات وهم يظنون وهماً وخطأً أن القات يكسبهم النشاط ويمنحهم طاقة غير عادية للعمل.. هل نستطيع أن نستورد من الصين «الإكسير» الذي صنعوا منه رجالهم.. ذلك الإكسير الذي جعل من أجيال ما بعد الأفيون عصراً لنهضة مشرقة تكاد شمس الصين فيه أن تطغى على كل شموس الأقوياء؟.