الأمة العربية أمة عظيمة ذات رصيد عظيم في كل الاتجاهات العقدية، القيمية، الإنسانية، الحضارية، كما أنها تقف على تاريخ سجل تغيرات على بقاع الأرض جميعها، وجسد إرادة إيمانية قوية بالحق والعدل، والإنسان، والسلام، والعلم والمدنية، واقترن هذا التاريخ وذلك الرصيد باقتدار رسالي وتلاحم وتعاضد في الإرادات بين الحكام والمحكومين.. ولعل القصة الشهيرة المتصلة بانتصار الخليفة المعتصم لامرأة، ملمحاً بارزاً لهذا التلاحم، فقد حرك جيشاً قوياً لإنجاز هذه النصرة، والسؤال: لماذا هذا الانحدار المريع في دور الأمة؟!. الإجابة معلومة، ومتداولة في الأوساط العربية والإسلامية بمختلف مسمياتها، ولعل من أبرز ملامح هذه الإجابة، غياب القيادة الرسالية المؤمنة بقدرتها واقتدارها، والمؤمنة بحق هذه الأمة في الاستواء على دور فاعل ومؤثر على هذا الكوكب، إذ وصل إلى كراسي الحكم شخصيات تفتقد إلى مقومات القيادة، وأسباب الاستمرار اعتماداً على عوامل ذاتية وموضوعية بعيدة عن الاعتماد على قوى الهيمنة والبغي التي يتكئ عليها الكثير من القيادات.. ومن أبرز ما تفتقده القيادات: الثقة بالنفس، والقدرة على احتلال ناصية الشارع بالممارسات الوطنية والقومية المنتمية، والحماس لتحقيق الرفاه الاجتماعي للجماهير بتوظيف موارد الوطن لأبنائه، برؤى منهجية ومدروسة قائمة على يقين القيادات أنها مسؤولة ومأمونة على هذه الموارد وأن حدود المسؤولية والأمانة تقف عند حسن التوظيف والتصريف، وبما يخدم خيارات الأمة ويقوي إرادتها ويمكنها من أسباب القوة والانتصار لحقها وبما يردع من يحلم بالاعتداء عليها في أحلامه وليس فقط ردع من يشرع في العدوان.. وبالمقابل أيضاً، فإن الشارع العربي الغاضب والثائر، والمتعطش لنفض غبار الذل والمهانة التي تسبب في استيطانها أقطاره، خضوع الحكام ووقوعهم أسرى التبعية والاستلاب، يفتقر إلى قيادات جماهيرية ترتقي إلى مستوى الحدث وتمتلك مهارات الإمساك باللحظة واستثمارها في قيادة الشارع والسير به ومعه في اتجاه إحداث التغيير، والانتصار لكرامة الأمة وعزتها، فالمتابع لحركة الشارع العربي، والشارع الدولي المساند في حلقات الهجمات والعدوان المتكررة على الأمة في العراقوفلسطين، يدرك جيداً المدى السحيق الذي تقبع فيه القيادات السياسية والحزبية، وتحوصلها في زوايا بعيدة لا تمكنها من التقدم ومسك زمام الشارع، بل تثويره وتنظيم حركته وتوجيهها بما يخدم أهداف الأمة وغاياتها العظيمة.. والمؤسف أن القيادات الرسمية وغير الرسمية تنظر جميعها في حركتها صوب البعيد، وتطلب نصرته، وتنشد رضاه ومباركته، على الرغم من أنه الصوب الآثم، والمخزن الآسن بكل السموم والأحقاد المستهدفة مواطن الضوء والخير والإرادة والقرار في الأمة، فنراهم جميعاً في الملمات التي تنزل بالأمة يتوجهون إلى مجلس الحرب الدولي «ويناشدونه» التدخل، كما يتوجهون نحو ما اصطلح على تسميته «المجتمع الدولي» والذي اتضح بالصوت والصورة، والقول والفعل، أنه «مجتمع القضاء الدولي» الذي ما انتصر يوماً للأمة في أية قضية من قضاياها. والمؤسف أيضاً أن هذه القيادات استبدلت قيم الأمة في الحكم والإدارة والتنمية، بقيم وافدة في ظاهرها الرحمة وفي باطنها ومن قبلها العذاب، فالديمقراطية صارت شعاراً ومشجباً تعلق عليه أحلام الأمة، وتصلب عليه إرادتها، وأضحت الديمقراطية مطلوبة لإرضاء القوى الباغية في العالم، ولم تشكل سلوكاً وممارسة بمضامينها المؤسسية، وأدواتها التي تتجاوز صناديق الاقتراع.. فالديمقراطية التي تأتي بقوى لا تتناغم وقوى الهيمنة فهي ديمقراطية ينبغي أن يعاد النظر بها، واسقاط القوى التي افرزتها، والأمثلة مايقع في فلسطينالمحتلة، ففي الجزء المستلب الذي تقوم على مقدراته وإرادته وأرضه الصهيونية العالمية، التي جاء ميلادها من بحار الدم لأصحاب الحق، وعلى أجسادهم، وجماجمهم، وعلى أنقاض المهجرين الذين صاروا في شتات الدنيا، هي قوة ديمقراطية، ومجتمعها مجتمع مدني، وفي الجانب المحرر جزئياً الذي يتواجد عليه أبناء ينتمون إليها وتتشكل أجسادهم من ترابهم، وترتسم سحناتهم من اشراقات شمسه، ومن تنسم هوائه هم قوى ارهابية، لأنها قوى مقاومة وممانعة ومجاهدة بالفكر والممارسة لاسترداد الأرض والحق والتاريخ.. وهذا المشهد الواضح على أرض فلسطين العربية المحتلة من الماء إلى الماء، يشرح طبيعة المجتمع الدولي المجبلة على النفاق، فالشخص الذي يقف على رأس هذا المجتمع يناشد الحكام العرب للضغط على حركة حماس، الحركة المقاومة ومعها الفصائل الأخرى لإيقاف الصواريخ التي قتلت في كل أيام الحرب ثلاثة أشخاص، ويتم التحدث والإشارة باستحياء للضغط على القوى المعتدية لإيقاف حربها.. ووصل الإثم مدُه، وفي صورة بشعة، وكلمات انبعثت من قتلة محترفين، يقفون أمام وجنب ووراء العدوان الصهيوني، مثلها ممثل الدولة الأكثر طغياناً في العالم الولاياتالمتحدةالأمريكية، والتي قال بدم بارد، وصلف إجرامي فاقد للمشاعر إن ما تقوم به «دولة اسرائيل» كما سماها هو دفاع عن النفس، ومن ثم فالجهود والضغوط ينبغي أن توجه نحو مصدر العنف والإرهاب.. يا سبحان الله.. وتتصاعد وتيرة الحزن والألم حين نسمع تصريحات عن حكام عرب يجلدون الضحية ويتجاهلون المعتدي الآثم، ونسمع عن شرعية فلسطينية في ظل تناثر اشلاء الفلسطينيين التي تتناثر جراء الآلة العسكرية الصهيونية، وكأنها ليست أشلاء أدميين، وأناس استبيحت دماؤهم واجسادهم ظلماً وعدواناً على مرأي ومسمع من الجميع.. إن الجرم المشهود يبرز ويستقيم معلناً عن نفسه في المواقف المتخاذلة للحكام العرب، وخنوعهم وخضوعهم لإرادة المعتدين والقوى الباغية، تمثل في توزع الإرادات والمواقف، وفي عجزهم على عقد لقاء انتصاراً لتلك الدماء، وحين سئل بعضهم أجاب إن ذلك يأتي حرصاً على نجاح اللقاء، وفي حقيقة الأمر هو حرص على توفير الفرصة للمعتدين ليتمموا عدوانهم في اجتثاث المقاومة، وهذا التحليل لم يعد حكراً على المحللين السياسيين بل رددته حناجر المتظاهرين وعلت أصداء صرخاتهم السماء، وارتفعت إلى الباري عز وجل مشفوعة بالدعاء على هذه القيادات. لا يتضح موقف المهانة والمشاركة في استباحة الدم العربي أن الحكام لم يفكروا في اتخاذ خطوة جريئة في أي اتجاه بعيدة عن السلاح والمعركة المباشرة، ومتمثلة بقطع العلاقات مع المجرمين والقتلة، فيما اعلام هؤلاء القتلة لا تزال مرفوعة تلوث الفضاء العربي وتشوه حاضره.. إن الإرادة العربية الغائبة في القرار الرسمي اليوم، لم يطل غيابهم والمسيرات والحركة الدائمة للشارع العربي على مدد زمنية ممتدة إلى مطلع التسعينيات للقرن الماضي، واستمرارها لابد أن يفضي إلى سقوط ارادة الذل وانتصار إرادة الحق والحرية، ومن ثم فإن القيادات الجماهيرية إن لم تحاول الارتقاء إلى مستوى الشارع، فإنه سيفرز قيادات جديدة تتجاوزهم وتخلفهم في الزوايا التي ينبغي أن لا يغادروها، لقد صار محتماً عليهم الخروج من سراديبهم، والمكوث في الشارع والعمل على امتلاك مساحة تحملهم وتمكنهم من المضي مع إرادة التغيير، وبالمقابل فالحكام الذين ارتضوا المهانة لأنفسهم واحكموا القبضة على جماهير الأمة، سيواجهون مصيراً لن يجدوا فيه من ينصرهم ربما في ذلك قوى الطغيان الدولي، والتاريخ القريب يدل على ذلك ويشرحه. فهل انتم معتبرون، وهل نرى صحوة تمنحكم شرف ما يصنعه المقامون المجاهدون الأحرار في غزة العز والانتصار، إنها فرصة لمن يشاء أن يستقيم وما تشاؤون إلى أن يشاء الله، ومشيئة الله مع المجاهدين، فهل تغتنمون اللحظة وتكسبون التاريخ ومن قبل ذلك رضا الله وعفوه، أم أنكم مازلتم تسكنون في قماقم خاتمها في اصبع عفريت واشنطن الذي بدأ يتهاوى تحت ضربات المقاومة المجاهدة في العراق وافغانستان، وما هذا الزيدي إلا عنوان على هذا التهاوي الذي بإذن الله بات قريباً، ومن ثم لن يفرك الخاتم، وستكون نهايتكم في قماقمكم التي سينتهي بها المقام في مزبلة التاريخ. والله من وراء القصد.