كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها الاستحقاق الانتخابي القادم للمجلس التشريعي، وأغلب تلك الأسئلة يحتاج إلى إجابات قد تخرج عن حدود الحيز المتاح لهذه التناولة، لكننا نطرحها على طاولة الحوار بين المختصين والمهتمين بالشأن السياسي اليمني علّها تحظى بالنقاش. تثار كثير من الأسئلة، منها: لماذا الانتخابات، وهل ستؤدي إلى تعزيز قيم المواطنة والمشاركة والمساءلة الشعبية لممثلي الشعب اليمني عبر تجديد الثقة لمن يستحقها ونزعها ممن لا يستحق، أم لا، وهل ستكون فرصة لتعميق التجربة الديمقراطية اليمنية وتعزيز الثقة بين الناخبين والأحزاب والقوى السياسية اليمنية، أم أنها ستعمّق الفجوة بين تلك القوى اليمنية نتيجة قرار المقاطعة الذي تصر عليه أحزاب اللقاء المشترك، وأخيراً: هل ستتشبث أحزاب اللقاء المشترك بنيتها في المقاطعة، أم ستنجح محاولات اثنائها عن قرارها، وأخيراً: هل يمكن تجسير الفجوة بين طرفي الأزمة، وتقليص مساحة الخلاف بينها، أم لا؟!. بداية نشير إلى أن المجتمعات الديمقراطية الحديثة ابتكرت الاقتراع أو الانتخاب كوسيلة أو آلية ديمقراطية لإسناد السلطة المنظمة لممثلي الشعب، وباعتبارها بديلاً إجرائياً لاستحالة تطبيق الديمقراطية الشعبية المباشرة، وتتم هذه الآلية عن طريق اختيار ممثلين يحكمون باسم الشعب - مالك السلطة الحقيقي ومصدرها - ونيابة عنه في جميع مستويات السلطة، دون أن يعني ذلك تنازل الشعب عن حقه في العودة وسحب السلطة ممن اختارهم إن لم يحسنوا العمل أو لتجاوزهم حدود المسموح به بموجب عقد الثقة الممنوح لهم. وقد سعت جميع المجتمعات إلى البحث عن أفضل الأساليب لوضع فكرة الاقتراع موضع التنفيذ حتى تأتي نتيجته معبرة عن حقيقة اتجاهات الشعب.. وابتكرت المجتمعات وطورت في سعيها لبلوغ تلك الغاية عدة نظم أو أساليب للانتخاب، بدءاً من نظام الانتخاب الفردي، مروراً بنظام التمثيل النسبي، وانتهاءً بالانتخاب المختلط. ولم يكن انتقال المجتمعات من نظام إلى آخر نتيجة رغبات حزبية أو شعبية طارئة وغير معقلنة، لكنها انتقلت من تلك الأنماط المختلفة عبر مراحل تاريخية طويلة، وبعد تقييم عميق لنتائجها على المجتمع، حتى تتناسب مع النتائج المرجوة من قيام العملية الانتخابية نفسها، وبما يحافظ على الوحدة الوطنية لتلك الدول والمجتمعات، ويحقق الاستقرار السياسي والحكومي، ويعزز قيم المواطنة، ويعمق الممارسات الديمقراطية وتمثيل جميع الأحزاب والقوى السياسية داخل المجتمع، وأيضاً لتلافي العيوب التي أفرزتها العملية الانتخابية في كثير من تلك المجتمعات. بمعنى أن معيار اختيار النظم الانتخابية الملائمة لإجراء الانتخابات وفرز النتائج وتفضيلها على ما عداها، لم يخضع لرغبات أو لقناعات وتهديدات حزبية بالمقاطعة وعدم خوض الانتخابات القادمة، وإنما استند إلى عدة عوامل قانونية وموضوعية كانت في مقدمتها: الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، كما حكمتها طبيعة النظام الحزبي الذي تبنته تلك الدول، والنتائج التي أفرزتها الانتخابات فيها، ومدى نجاح هذا النظام أو فشله في التجارب الدستورية الأخرى، كما أنه ارتبط بوضع بعض الشروط والضمانات الدستورية والقانونية والمواثيق المختلفة لوضع تلك النظم موضع التنفيذ. وفيما يتعلق بتجربتنا اليمنية، يمكننا سرد مجموعة من الحقائق التاريخية البارزة التي عرفتها التجربة السياسية في الجمهورية اليمنية، وبالخصوص تجربة الانتخابات الرئاسية والمحلية الماضية، مما له علاقة بالانتخابات القادمة، وأهمها التالي: 1- المناخ السياسي في مجتمعنا اليمني تميز بجملة من المؤشرات منها: إجراء الانتخابات في ظل احترام الثوابت المتعلقة بالتعددية الحزبية والسياسية واحترام الرأي والرأي الآخر وحرية التعبير.. ولعل هذا المناخ هو الذي أتاح للأحزاب السياسية المجال للعمل السياسي، وأتاح لها التكتل دون ضغوط أو تدخلات، ومنها: احترام مواعيد إجراء الانتخابات والالتزام بالمواعيد المتفق عليها والمحددة دستورياً. ولذا سيكون من غير المعقول تأخير الاستحقاق الانتخابي لأي سبب كان، وإن كانت لدى بعض القوى السياسية اليمنية مآخذ على طبيعة النظام الانتخابي وإجراءات التسجيل وغيرها، فإن إدخال تطوير أو تعديلات عليها رهن بالمشاركة بجدية في الانتخابات، والفوز بتلك الانتخابات واتباع وسائل وإجراءات التعديل الدستورية المعروفة. 2- كما يمكن أن تتم تلك التعديلات عبر قنوات الحوار السياسي، ولا يمكن أن تأتي عبر المقاطعة وترك الساحة لبدائل غير دستورية وغير سلمية قد تؤثر على مجمل العملية الديمقراطية والتنموية في بلادنا. وقد وصلت الأحزاب السياسية اليمنية قبل إعلان قرار المقاطعة إلى نتائج مهمة تم الإعلان عنها في حينه، عندما اتفقت على تعديل قانون الانتخابات، وإعادة تشكيل اللجنة العليا للانتخابات، ثم عادت وأعلنت عدم موافقتها على ما تم الاتفاق عليه. ونعتقد أن نقطة البدء يجب أن تكون من هذه النقطة، بعد إعلان تلك الأحزاب عن نيتها في المشاركة في العملية الانتخابية، والالتزام بإجراء الانتخابات النيابية القادمة في موعدها المحدد. 3- تجربة الانتخابات اليمنية السابقة لم تعرف منع أو حظر أي حزب أو تيار سياسي من المشاركة في الانتخابات، بل كانت على العكس مناخاً مفتوحاً لكل القوى السياسية المتنافسة على الساحة السياسية اليمنية طالما احترمت القوانين والدستور اليمني، وهذه الحقيقة لا يستطيع أن ينكرها أحد، ومقاطعة الانتخابات البرلمانية ستكون قراراً بالإقصاء الذاتي لهذه الأحزاب، وعدم احترام إرادة القواعد الشعبية لهذه الأحزاب، وإقرار بفشل تلك الأحزاب عن مسايرة الاستحقاقات الديمقراطية والاستمرار في العملية السياسية والهروب إلى وسائل أخرى كارثية، ولن تفرز على المدى الطويل سوى الحقد والكراهية بين أبناء اليمن الواحد، وعزوف المواطن اليمني عن العملية الانتخابية برمتها جراء تناقص الثقة في سياسات تلك القوى السياسية. غزة.. في قلب النار ربما لا يدرك كثير من القراء أن الإعداد لتفاصيل الحرب العدوانية التي تتعرض لها غزة اليوم بدأت من تاريخ إعلان نتائج الانتخابات الفلسطينية، وفوز حركة حماس الإسلامية بأغلب مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني وتشكيلها للحكومة، وهي النتائج التي لم ترض الولاياتالمتحدةالأمريكية وحكومة الكيان الصهيوني، وتسببت في مرحلة تالية في خلق الشرخ بين صفوف القوى السياسية الفلسطينية، وأنه لولا هذا الشرخ وما تبعه من تواطؤ لكثير من الأنظمة السياسية العربية، ما كان سيحدث ما يحدث اليوم في غزة. كيف؟!. بالنظر إلى الواقع السياسي العربي ومتغيراته أو التطورات التي شهدها خلال الأيام القليلة الماضية، والمجازر التي يتعرض لها إخواننا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي غزة على وجه الخصوص، والصمت المريب أو التآمر العجيب لكثير من أنظمتنا العربية مع العدو الصهيوني في شن العدوان الوحشي الغاشم على شعبنا الأعزل في قطاع غزة المحاصرة منذ أمد طويل، هذا الصمت الذي يعكس حالة الاغتراب التي تعانيها أغلب أنظمتنا السياسية العربية عن جماهيرها الشعبية، والفجوة التي باتت تفصل بين توجهات ورغبات تلك الجماهير وبين سياسات وقرارات تلك الأنظمة، وهي الفجوة التي ظلت تتسع يوماً إثر يوم. وهو ما دفع جماهير هذه الأمة إلى البحث عن بديل آخر عن تلك الأنظمة، وفي الغالب يكون البديل الإسلامي جاهزاً ليقدم نفسه بديلاً لتلك الأنظمة الفاسدة أو المهزومة أو المستسلمة، حدث هذا في كثير من الأنظمة السياسية العربية، بدءاً بالجزائر، وانتهاء بفلسطين. واليوم تعزز حالة الضعف والوهن والتقهقر التي يعاني منها نظامنا الإقليمي العربي (الجامعة العربية) وعجز غالبية الأنظمة السياسية العربية التي تكون هذا النظام عن رد هذا العدوان، وحالة الاستسلام التي كشفتها الأزمة والحرب في غزة الحرة الصامدة والمجاهدة، والتي عبر عنها من خلال رفض أي تحرك عربي جاد وصادق من أجل وقف هذه الحرب العدوانية على شعب أعزل ومحاصر، وعدم قدرة النظام العربي على ترتيب قمة "ولو كانت خطابية لا تقدم ولا تؤخر، ولا تسمن من جوع" والاكتفاء - أحياناً - بالصمت، أو عدم إنكار تلك المجازر بالقلب ولو من باب أضعف الإيمان، هذه القناعة ويمكن اعتبارها انعكاساً صادقاً عن موت هذا النظام بعد أن ظل يقاوم ويحتضر لسنوات عديدة نتيجة غياب أي اتفاق على الحد الأدنى من القضايا التي ترتبط بالكرامة والعزة والثوابت القومية. فهل تتنبه القوى السياسية اليمنية إلى هذه الحقائق، وهل تعي الدرس، وهل تتفق على الحد الأدنى من المصالح الوطنية المشتركة الذي يجنب وطننا اليمني ويلات الصراع والاحتراب والأزمات؟!.