الذين زرعوا اسرائيل في قلب الأمة العربية وغرسوها كنبت شيطاني كأنها «شجرة الزقوم» يمنّون علينا أنهم كانوا رسل نهضة ودعاة تقدم يحملون الخير للإنسانية جمعاء.. ولم يكن احتلالهم وقهرهم للشعوب إلا صورة من صور السعي للارتقاء بالإنسان والنهوض به في ميادين العلم والمعرفة وتخليصه «أي الانسان» من حياة الجهل والتخلف والفقر والمرض. ساء ما يظنون أو يزعمون، لو أنهم كانوا كما يدعّون رسل أمن وسلام ورفاهية، لكانوا وطّنوا العلم والمعرفة في البلاد العربية بدلاً من توطين اسرائيل كجسم غريب يرفضه جسم الأمة ولا يجد له من علاج إلا إعادة توطينهم في أوروبا من حيث ما جاءوا. فلماذا يضيق الأوروبيون باليهود كأفراد يعيشون في بلدانهم ولا يريدوننا أن نضيق بهم كدولة عنصرية زرعوها بيننا بالمكر والخديعة والتواطؤ والتآمر والغش؟!. لو كان الأوروبيون رسل علم وحضارة كما يدّعون لساعدوا أمتنا العربية قبل جلائهم عنها في إعداد المعلم الجيد والمدرس الكفء والمنهج الدراسي السليم في كل مدارسها ومعاهدها وجامعاتها.. كانوا يعلمون ان العلم والمعرفة هما أدوات التقدم ومفتاح التدين السليم، وان إدراك قيم الدين ومعرفة أحكامه بصورة صحيحة وسليمة هو من أهم أسباب النهوض والارتقاء بخصائص الإنسان وتنمية قدراته وصقل مواهبه وتفجير طاقاته الإبداعية. ولكي يعطلوا هذا المد العقدي المغروس في وجدان كل مسلم، ويلغوا التأثيرات الإيجابية للعقيدة الاسلامية في نفوس أهلها، عمدوا إلى تشجيع الفهم المعوج لمقاصد الشريعة، وروجوا للتدين المغشوش. فقربوا من حولهم «الدراويش» من أنصاف المتعلمين والمدسوسين على الدين، الذين أخذوا يشيعون بين الناس ان المسلم إنما خلق للعبادة، بمفهومها الضيق، خلق للصلاة والصوم والحج إلى بيت الله الحرام. وإن الكفار قد خلقهم الله لخدمة المسلمين!!! خلقهم لإتقان الصناعة والزراعة وتحصيل العلم والإنتاج الغزير، ليجد المسلمون ما يستهلكونه دون تعب أو نصب ودون جهد أو تفكير.. وليتنا كنا قد علمنا أنهم نجحوا في تسخير كل ما عندنا من خيرات لخدمتهم، وأن خيرات بلداننا وخاماتها الأولية وما لدينا من ثروات فوق الأرض وفي باطنها إنما هي بمثابة الكنوز التي ينهبونها وعمروا بها بلدانهم. لكن التخلف والجهل وشروط عقلية المحتلين لفوا الواقع وغلفوه بأغلفة براقة زاهية جعلتنا نعتقد هنا في عدن - على سبيل المثال - أننا قد وصلنا إلى درجة من التقدم العلمي والثقافي والمعيشي ما يصلح ان نباهي به أمم الأرض. في حين أننا في حقيقة الأمر لم نكن على شيء من التقدم الحقيقي، فكل الذي عمله الانجليز في عدن إبان احتلاله لها أن أوجد فئات علمانية شديدة النفور من الدين وأخرى تتعامل مع الدين كما لو كان عادة من العادات الاجتماعية؛ تذهب إلى المسجد للصلاة يوم الجمعة وتصوم رمضان كنوع من العادات السنوية. وبالطبع لا يمنع هذا أنه كان في عدن تديّن حقيقي والتزام حقيقي في التعامل مع الدين، ويكفي أن نذكر في هذا الخصوص أنه كان في عدن قاعدة واسعة من أسهل الإيمان من كل الفئات العربية والهندية والباكستانية وفي مقدمتهم بطبيعة الحال هم اليمنيون. وكان هناك عدد كبير من علماء الدين الأجلاء الذين كانوا سبباً في إنارة الطريق وتصحيح المفاهيم وتصفية العقيدة من شوائب ثقافة المحتلين، أمثال الشيخ محمد سالم البيحاني والشيخ علي محمد باحميش والسيد مطهر الغرباني وأحمد العبادي والشيخ العجيل وغيرهم كثيرون.. كان هذا يسير في اتجاه والانجليز يسيرون في اتجاه آخر، فهم لا يريدون علماء ولا يريدون خبراء وإنما يريدون كتاباً وفنيين صغاراً، كطبقة سطحية التعليم، محدودة الفهم، لمساعدة الخبراء وكبار الموظفين من الانجليز والهنود لتسيير الأعمال المكتبية، ويريدون كفاءات وقدرات في مواقع لا تحتاج أيادي ماهرة ولا تحتاج مبدعين.. فأنشأوا لهذا الغرض المدرسة المتوسطة وحرّموها على غير العدنيين تكريساً للتفرقة بين مواليد عدن ومواليد المناطق المجاورة لها جنوبية كانت أم شمالية، كما أنشأوا كلية عدن للغرض نفسه. فكان من مخرجاتها من واصلوا دراستهم في بريطانيا، ليعود البعض منهم يحمل في نفسه بغض الانجليز الذين هيأوا لشعوبهم حياة مختلفة عن الحياة التي هيأوها للشعوب المحتلة، فهم يعيشون هناك حياة الرفاه والازدهار، حياة قوامها العلم والمعرفة والنظام والعدل.. فأين نحن من هذا كله؟!. أما بعضهم الآخر فقد عادوا وقلوبهم مفعمة بحب الانجليز، إعجاباً بهم، ساخطين على مجتمعهم الذي يرونه عاجزاً أن يتقدم خطوة واحدة نحو التقدم الحقيقي، وكأنهم لا يعلمون أن مجتمعهم يخضع في الأصل لإرادة الانجليز وليس له الخيار أن يتقدم أو لا يتقدم.. فالانجليز يريدوننا أن نبقى على حالنا «زبائن» نستهلك صناعاتهم، ووعاءً للجهل، لا نعلم حتى إننا جهلاء وفقراء ومتخلفون. وهناك من أنصاف المتعلمين من تحول إلى قوة علمانية تناوئ الدين، وأخرى سياسية ترفع شعارات براقة وزاهية تعكس نوع الثقافة والاتجاهات التي يريد الانجليز تكريسها. فئات كثيرة ومتنوعة، مختلفة في الرؤى والأهداف، لم تجد من يعدها ويوجهها التوجيه الصح، ويؤهلها لاستلام الحكم وقبول الآخر كشريك له.. بل وجدت من يزرع فيها بذور الشر وينفث في صدورها الأحقاد ويعدها ليوم النزال، لكى يمزق بعضها البعض الآخر؛ لكي يتذكر الناس الانجليز بالخير قائلين: «سلام الله على الانجليز!!». وربما تكون التفاصيل مختلفة في فلسطين عما كان عليه حالنا في عدن، لكن الذي يتدبر الأمر يجد أن الأمريكان والانجليز الذين زرعوا دولة اليهود في فلسطين، لايزالون يبذرون بذور الخلافات بين الفلسطينيين حتى لا تلتقي الفصائل لكي يمكنوا لاسرائيل أن تكون هي اللاعب المؤثر الوحيد التي تستطيع ترتيب أمور الفلسطينيين حسبما يتفق مع أطماعها ومخططاتها.