الذين قتلوا الأبرياء ظلماً وعدواناً، وعاثوا في الأرض فساداً، ثم فرّوا ليختبئوا في قراهم، أو لاذوا بمن هم أشد منهم إجراماً وفساداً في الأرض.. ليسوا سوى حفنة من المجرمين الجبناء الذين تربّوا في مدارس الحقد تباعاً منذ أيام الإنجليز الذين أخذوا يزرعون بذور الفرقة والكراهية بين أبناء الوطن الواحد، فأخذوا يلقنونهم ثقافة البطش والتنكيل منذ أول يوم وطئت أقدامهم «أي الإنجليز» أرض اليمن في عدن. ولأن الإنجليز كانوا يريدون عدن دون هوية ولا صاحب، فقد أخذوا يكرسون فيها عوامل الفرقة بين القبائل والمشيخات والأسر، منتهجين سياسة «فرّق تسد» ثم أخذوا يوطنون فيها الهنود بشكل فادح. حتى لقد صارت عدن في مطلع القرن العشرين توصف من الرحّالة الفرنسيين ومن غيرهم بأنها عدن«الهندية» لأن الإنجليز «هنّدوها» في كل شيء، في الإدارة وفي الإعلانات وفي المؤسسات التجارية وفي فتح المجالات للهنود من كل الطوائف، وأن تكون لهم الأولوية بعد الإنجليز في كل شيء. لذلك فقد كانوا في معظمهم ركائز وأعواناً ودعائم للإنجليز فاعتبروهم الأب الروحي لهم أو ما هو أعلى رتبة من الأب الروحي «God Father» وكانوا محقين في ذلك، فمن كان غير الإنجليز يستطيع أن ينهب أرضاً من أهلها وأصحابها الحقيقيين ويسلمهم إياها هكذا بسهولة كما لو كانت قطعة من أرض الهند الواسعة والشاسعة الأرجاء؟!. كأن الهند وحدها بعظمتها واتساع رقعتها وخيراتها كانت لا تكفي أن يبتلعوها فتصبح تابعة للتاج البريطاني حتى جاء «المهاتما غاندي» ومعه الأحرار من الهنود الهندوس والهنود المسلمين فوضعوا حداً لنهاية الإنجليز في الهند. ولم تدم أيام الإنجليز كثيراً في عدن، لكن قبل رحيلهم كانوا قد تركوا المدرسة الإنجليزية أو الثقافة الإنجليزية التي واصلت عملها في زرع الفرقة بين أبناء الشعب اليمني.. هذا جبلي وهذا عدني.. هذا ضالعي وهذا حضرمي.. ذاك يافعي وذاك عولقي، وآخر عبدلي.. وهذا جنوبي وذاك شمالي!!. ومن أجل إتمام هذه المهمة اصطفى الإنجليز من استطاعوا أن يستميلوهم من أهل الثقافة والفكر ومن أهل الصحافة، كما اصطفوا من السفهاء والسواقة والجاهلين بتراثهم وتاريخ أمتهم العدد الكبير الذين ظنوا أنهم بعد رحيلهم من الباب سوف يستطيعون الرجوع من الشباك بنفوذهم وتحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولم يأت الحكم الوطني إلا ليجني ما تركته ثقافة الإنجليز من أسباب للفرقة، وبدلاً من أن يوحد الحكم الوطني أبناء اليمن في المناطق الجنوبية تحت الراية الوطنية اليمنية التي كان ينادي بها ويوهم جماهير عدن بأن اليمن واحدة والوحدة اليمنية قادمة حتى ألهب نفوس اليمنيين وعقولهم التواقة للوحدة بالحماس بيوم الخلاص من التفرقة والتجزئة.. إذا بالحزب الذي غلبت عليه الأغلبية الماركسية يريد أن يوحد اليمن تحت الراية الشيوعية، وبسبب ذلك الخطأ الاستراتيجي أو الأيديولوجي أخذ الحزب ينقسم إلى شيع وأحزاب "كل حزب بما لديهم فرحون" فأخذوا يقتتلون ويتفككون، ثم يعودون يقتتلون ويتفككون!!. أخذ كل فريق منهم يكيل التهم للفريق الآخر، بأنهم عملاء وأنهم خونة وأنهم كذا وكذا.. ولم يستطع الفكر الشيوعي الماركسي أن يزيدهم إلا ضعفاً على ضعف ووهناً على وهن. فأخذ الحكام في عدن - أو لنقل بعضهم - ينشئون مدارس فكرية جديدة على غرار المدارس الماركسية المبنية على الحقد والكراهية ونبذ الآخر الذي يخالفهم في الرأي أو الفكر. وكان أشدهم قسوة وغلظة ذلك الفريق «الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون». فتصدى لهم فريق آخر من الرفاق، واشتعلت الفتنة، وكانت الفتنة لا تخبو أو ينطفئ لهيبها إلا لتشتعل من جديد، حتى أكلت نيران الفتنة المشتعلة أكثر قياداتهم وزعمائهم نشاطاً وهمّة. واستمر حالهم كذلك لا يخرجون من فتنة، حتى يدخلوا في فتنة أشد وأعظم، وجاءت الوحدة فكانت الخلاص، وكانت هي الحل والأمل والرجاء، ففرح بميلادها كل شيء الإنسان والجماد، البحار والجبال والشجر حتى الطيور أخذت تترنم بها. واستمر الأمر كذلك حتى استيقظ شيطان المكر والحقد ونوازع الفرقة، واستيقظت ثقافة المناطقية والكراهية التي بذرها الإنجليز وعمقتها التربية الماركسية، ولولا ذلك ما قتل الأبرياء الآمنون في بيوتهم ومحلاتهم من أولئك الكلاب المسعورة المتعطشة للدماء. وعلينا أن نعلم أن القتلة ليسوا فقط الذين ينفذون القتل في بلادنا؛ بل إن القتلة الحقيقيين هم أولئك الذين ينزلون فنادق "خمسة نجوم" فما فوقها في لندن وباريس وبرلين وغيرها من البلدان الأوروبية، ويتسكعون في عواصم بلاد عربية كثيرة، يضللون ويمكرون.. وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.