غابت القضية الفلسطينية عن المشهد السياسي الدولي؛ وحضرت بدلاً عنها قضايا افغانستان والعراق ودارفور؛ لكنها كانت حاضرة بمشهد سيئ على المستوى الفلسطيني عندما انفجر الصراع بين فتح وحماس. العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث، فكانت على طاولة الأولويات في السياسة الدولية وذكّرت العالم بمآسي الشعب الفلسطيني وأبرزت كم ونوع الجرائم التي ترتكبها اسرائيل ضد الإنسانية وانتهاكها لكل القوانين والتشريعات الدولية والإنسانية. برؤية واقعية بعيدة عن توهم النصر على اسرائيل وتخدير الأمة العربية بهذه الأوهام لأن أي نصر فيه طرفان خاسر وكاسب، فهل خسرت اسرائيل عسكرياً حتى نؤكد انتصار المقاومة في غزة؟ بالتأكيد لم تخسر اسرائيل عسكرياً؛ لكنها لم تستطع تحقيق أهدافها، بل أبعد من ذلك فإنها خسرت المعركة السياسية على مستوى الرأي العام. أمنياً اسرائيل حصلت على اتفاقية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وقّعتها «ليفني ورايس» بموجبها يتم منع تهريب السلاح لحركة حماس؛ وهو ما يعني مراقبة وتفتيش السفن التي تصل إلى غزة أو يشتبه بأنها تتجه إليها وهي محاولة يائسة من اسرائيل ومن ليفني وباراك لتكون هذه الاتفاقية غطاء سياسياً لإعلان وقف اطلاق النار والانسحاب من غزة حتى لا تؤثر نتائج حرب غزة على سير المعركة الانتخابية التي يواجهان فيها صراعاً ساخناً مع الأكثر تطرفاً نتنياهو. إسرائيل التي ظلت تسوّق للعالم مآسيها في محرقة الهولوكست اكتشف العالم وهو يرى صور الدمار الذي حل بمبنى الأونروا التابع للأمم المتحدة ويرى أشلاء الأطفال والنساء المتناثرة في فناء المدارس التابعة للأونروا، وهي الأماكن التي لجأ إليها هؤلاء لأنها تحت حماية المجتمع الدولي، فاسرائيل لم تراع حرمة ولا قانوناً ولا تشريعاً، وتمارس "هولوكست" بحق الفلسطينيين بصورة أبشع مما تدعيه.. في لندن وباريس والنرويج...إلخ خرج الملايين ينددون بهذا العدوان ويطالبون بمحاكمة القادة الاسرائيليين على جرائمهم في غزة، وهي المظاهرات التي لم يشهد أن خرجت بهذا الحجم تدين اسرائيل وتؤيد المطالب الفلسطينية، وهو ما يعني تحولاً في مواقف الرأي العام الأوروبي والعالمي من المؤيد والمتعاطف مع اسرائيل إلى المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني والرافض للممارسات الاسرائيلية. على المستوى العربي والإسلامي عادت القضية الفلسطينية بقوة إلى ذهن الشارع العربي، بل أثبتت أن الذاكرة العربية حية وأن الوعي العربي موحد، وموقف الشارع العربي من قضايا الأمة أكثر انسجاماً ووحدة. استثمار هذه النتائج على المستوى الدبلوماسي وعلى المستوى الإعلامي يبقى هو أساس التحول في إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني ونقل هذا الصراع إلى أجندة فاعلة ومؤثرة في خلخلة تماسك اللوبي الصهيوني والحد من تأثيره على السياسة الدولية وسيطرته على وسائل الإعلام العالمية. دور المنظمات الجماهيرية ومنظمات المجتمع المدني والحقوقية العربية يجب أن لا يتوقف عند انتهاء الحرب؛ بل يجب أن تبدأ معركتها مع هذا الكيان في ملاحقة قادته قانونياً في المحاكم الدولية، وتبدأ المنظمات الحقوقية العربية في شرح الانتهاكات الإنسانية التي مارستها اسرائيل في غزة للمنظمات الدولية المشابهة لها في مختلف أنحاء العالم، وتفعيل لجان المقاطعة الشعبية للمنتجات الاسرائيلية أو المنتجات الصناعية والزراعية للدول التي تدعم اسرائيل. ويبقى أن يعي الفلسطينيون أن قضيتهم تظل مرهونة بوحدة موقفهم، وأن تجاوز نقاط الخلاف والاتكاء على نقاط الاتفاق هو الأساس لوحدة الموقف الفلسطيني؛ أما إذا ما استمر الخلاف الفلسطيني فإن كل النتائج الإيجابية من هذه الحرب ستنتهي بين الشد والجذب الفلسطيني.