تسري في أوساط المثقفين نادرة تدعي أن عقول العالم عرضت للبيع، فكان العقل العربي دوناً عن غيره من العقول، أعلى قيمة وأكثر رواجاً..أما لماذا؟ فيعللون ذلك بأن هذا العقل لم يعمل بعد، لم يستخدم، كناية عن حالة الجمود الحضاري الذي مني به الإنسان العربي، وقعوده عن المشاركة في صناعة مستقبل البشرية، فهو مستهلك أكثر من منتج؛ يعتمد على نفسه في طعامه وشرابه ولباسه ورفاهه. هذه الطرفة التي صاغتها الذاكرة الشعبية النخبوية جاءت لهدف نبيل هو تشخيص حالة الإنسان العربي ذي الصبغة الاتكالية؛ لكن وضعها «أي هذه الفكاهة» على محك شامل يستوعب جميع جوانب الحياة لدى الإنسان العربي سيكشف لنا جوانب أخرى لها علاقة بالتقييم الصحيح للعقل العربي وإعطائه حقه من حيث «العطل» أو «الجدة» والقدرة على الأداء. فيما لو أطللنا إطلالة على هذا العقل وتتبعنا خطى مالكه «العربي» سيتبين لنا عكس ما أخرجه خيال الأديب صاحب الفكاهة.. إنه عقل يعمل ولا تربطه «بالعقل الخام» أية علاقة أو رابط، وهذا ينسحب بالضرورة على سعر هذا العقل في سوق العقول التي رسمها خيال الأديب. قد تذهلنا النتائج بعد النظر الدقيق في حالة هذا العقل لاسيما من أوجد هذا المقياس الذي تتضح مجانبته للصواب بجعله هذا العقل وتصنيفه عقلاً «وكالة».. لماذا؟!. لأن هذا العقل يعمل.. يدور.. يتحرك.. يُستخدم ليل نهار.. لا يتوقف برهة.. يجهد.. يشتغل.. يتدبر.. يتأمل.. يرسم الخطط.. يضع أعقد التصورات.. يستقرئ الواقع.. ويستشرف المستقبل.. يحدد الآليات.. يشرح الوسائل.. يفعل الكثير لكنه لا ينتج. نعم.. إنه لا ينتج.. لا يأبه لأية فكرة فينقلها إلى مرحلة التحقيق الواقعي أو لا يهمه من أمر التطبيق شيء.. فهل بعد هذا يصح القول إن هذا العقل لايزال «خاماً» جديداً بفطرة الله التي ولد عليها؟!. أليس من الإنصاف أن هذا العقل «العربي» نتيجة للمجهود الكبير الذي يبذله قد خضع محركه لأكثر من عملية «توظيب» وصيانة ضاعفت من مشاكله؛ فغدا يخلط الصواب بالخطأ، والحق بالباطل «الماء بالصليط» فيصبح لا حراك «ملصص» ثم تتناوله أيدي الصيانة، عديمة الخبرة، فتحدث فيه إصلاحاً يعقبه فساد فيتوقف.. وهكذا دواليك. وإذا كان الحال كذلك، فما الذي يبقى من أمر «الجدة» أو «الخمخمة» المزعومة؟!. ما الذي قدمه هذا العقل للإنسانية، وما المأثرة التي صنعها اليوم فيلحق بركب العقول المتحركة الحية، المنتجة التي يتحسن أداؤها كل يوم، ولها أيادٍ تصونها وترعاها، وكل يوم تعمل فيها التحديث والتطوير، وتكسبها القدرة على الاستمرارية في إدارة حياة البشرية في المستقبل البعيد ليصبح ثمنها في معرض «خيال الأديب» باهظاً، وتدور حولها قوة شرائية منقطعة النظير؟؟!. العقل العربي لا تعمل فيه سوى مشغلات الصوت.. طالما نسمع فيه هديراً، طنطنة لفظية، تنظيراً تربطه بالواقع أيه صلة، فسلفات يصغر أمامها ميراث العالم الفلسلفي بدءاً من سقراط وأفلاطون وانتهاء ب «كانط» و«ديكارت». إذن يصح القول إن هذا العقل تدور رحاه ولا تخرج طحناً, وتدور عجلته ولا تولد طاقة، وما لم تشرف على صيانته إدارات تقول وتفعل وترسم وتنفذ وتخطط وتنتج، فإنه سيظل في سوق القرية «المليئة بالحُمُر الهزيلة والذباب، كما قال الشاعر البياتي» عقلاً رديئاً تتحاشاه رؤوس الأموال، ولا يفكر بتجريبه أحد، حتى يصيبه الصدأ الشامل والجمود الأزلي، وبالتالي تنعدم الوسائل نهائياً أمام ترويجه؛ فتصبح سوقه الوحيد «محلات الخردة» والبيع بالكيلو أو«على عشرين» على شكل شحنات «بطالة» وغباء تستفيد منها خلايا الإرهاب وتدخرها قوى الشر والمطامع الاستعمارية لتذويبها، ثم ترسم بها خارطة الوطن العربي وتلونها كيفما تشاء. هل أدركتم خطر الإنشائية الجوفاء؟!.