يبدو أن ذهنية التحريم السياسي ليست قاصرة على جماعات الإسلام الحزبي «السياسي»، أو الإسلاموية اختصاراً، التي تجعل من قاعدة الحلال والحرام معياراً للفصل في كل شيء وأي شيء، بدءاً من أدق تفاصيل المعاشرة الزوجية، والتعامل، وحتى أدق تفاصيل المفاوضات السياسية.. فمن الملاحظ أن ذهنية التحريم هذه قد أصبحت نمطاً ذهنياً مشتركاً بين كافة التيارات الفكرية والسياسية العربية، دينية كانت أو غير ذلك، أي أننا نتحدث هنا عن بنية عقل عربي، تشترك في ذات آليات التفكير، و إن اختلفت المقولات والأشكال التي تقدم بها. فعندما يتحدث الخطاب الإسلاموي مثلاً عن الغرب الصليبي، والماركسي عن الإمبريالية والرأسمالية العالمية، والقوموي عن الاستعمار وقوى التآمر على اختلافها وكثرتها، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن شيء واحد، وإن اختلف الشكل الخارجي للمصطلحات المستخدمة، فالعلاقة بين «نا»، وبين «هم» التي غالباً ما تتخذ أحد الأشكال السابقة، هي في النهاية علاقة صراع لاينتهي، تصوراً، إلا بانتصار أحد الطرفين، ونفي الآخر على وجه الإطلاق.. جوهر العلاقة إذن واحد، وإن اختلف ظاهرها. من هذا المنطلق، فإن العلاقة مع «الآخر»، الذي قد يكون أي شيء وكل شيء دون تحديد، بدءاً من الغرب على شموله، وصولاً ربما إلى جماعة محلية مفترضة، سياسية أو دينية أو فكرية أو غير ذلك، إنما تتحدد بأحكام المسموح والممنوع: ما «يجوز» وما لايجوز، من هو «مع»، ومن هو «ضد»، «الوطني» و«الخائن»، وهكذا.. بمعنى أنه إذا كانت جماعة الإسلام الحزبي تستخدم على وجه القطع، ثنائية الكفر والإيمان، الحلال والحرام، في تحديد علاقتها بالآخر، الذي قد يكون جماعة إسلاموية أخرى، وفي الحكم على الأحداث والأشياء، فإن التيارات غير الدينية، بل والتي يضع بعضها نفسه أحياناً على طرف نقيض مع الخطاب الديني جملة وتفصيلاً، إنما تفعل نفس الشيء حين تلجأ إلى القطعية في الإدراك، والحكم أحداث وأشياء هي بطبعها من المتغيرات غير القابلة للحكم القطعي، فالكل هنا ينطلق من ذهنية لاترى إلا أسود مفترضاً، أو أبيض متصوراً.. أما تفصيلات الرمادي وحركته، وبقية الألوان، فهي مسألة غائبة عن الوعي المباشر، أو قل هي غير متصورة إطلاقاً. نقول هذا الكلام بمناسبة كل هذا القيل والقال حول حدث أعطي أكثر مما يستحق، وجعل قضية ساخنة من قضايا العرب كثيرة، التي هي ساخنة دائماً، ولكنها سرعان ما تبرد، ونقصد بذلك الحديث حول «كوبنهاغن» وما جرى في عاصمة الدانمارك، إذ يبدو أن العرب قد أدمنوا مخدر «القضية» والقضايا، بحيث إن لو لم يكن هناك قضية، فلابد من خلق واحدة يتفق حولها بالاختلاف، وإن كانت في جوهرها لاتشكل قضية.. مجموعة من الأفراد، عرباً وإسرائيليين، بغض النظر عن صفاتهم ومهنهم المعلنة والمسرة، اجتمعوا وفق قناعة معلنة تخصهم، وتصور معين للسلام، وأذاعوا بياناً يحددون فيه وجهة نظرهم وتصورهم.. هذه هي المسألة ببساطة.. قد يتهم أحدهم، حين تطرح المسألة بهذا الفهم البسيط، بالسذاجة السياسية، وعدم التعمق في «حقائق» الأمور، حين لايدرك «المؤامرة» الخفية التي تقف وراء إعلان كوبنهاغن، ونوعية الأشخاص المشاركين، ومدى ارتباطهم بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مثل كيمحي وغيره، ونحو ذلك من حقائق لايدركها إلا الضالعون في علم مضنون به على غير أهله، والعرب عادة مسحورون بأي شيء مضنون به على غير أهله، فإذا كانت هذه البساطة في الإدراك هي السذاجة، فيا لها من مطلب عزيز، فما ينقصنا في عالم العرب هو هذا النوع من البساطة التي ترى العالم كما هو، وليس كما نراه عادة من خلف نظارات المؤامرة، وما يبيَّت بليل لكل أمر، وأي أمر. ليست المسألة هنا أن نؤيد أو نعارض اجتماع وإعلان كوبنهاغن، ولكن العلة تكمن في ذهنية التعامل مع حدث حول إلى قضية، أي إنها في ذات آليات العقل السياسي العربي، وليست القضية في أن نجتمع بهذا وذلك، على اختلاف الأسماء والمهن والجنسيات والنوايا التي قد تكون مبيتة وقد لاتكون، ولكنها في طريقة النظر إلى ذات الاجتماع وتصوره ذهنياً، وفق تحديدات وقوالب نظر جاهزة.. فالكل تقريباً تعامل مع الحادثة من باب «الحكم» عليها، وليس «نقدها»، وفرق بين الحكم والنقد. فالحكم يتضمن ثنائية تقرير الذنب أو البراءة، استناداً إلى معيار معين للحكم.. وهذا المعيار خاضع للهوى الأيديولوجي لمصدر الحكم، حين نكون ضمن حدود مجال الشأن العام.. فقد يكون الذنب هو الكفر أو الخيانة أو الرجعية أو العمالة أو الانتهازية، أو غير ذلك مما في القاموس السياسي العربي.. والبراءة قد تكون الإيمان أو الوطنية أو التقدمية أو الإخلاص أو السير مع إدارة جماهير متصورة ذهنياً، قبل أن تكون أناساً ملموسين، أو غير ذلك، المهم أن هنالك معياراً مرجعياً، ثنائي الاتجاه، يستند إليه مصدر الحكم، أو من جعل من نفسه قاضياً، في تمييزه بين البريء والمذنب، سواء تعلق الأمر بالأشخاص أم الجماعات أو الأحداث.. وهذا المعيار لايحتمل إلا واحداً من اثنين: الذنب أو البراءة، ولا مجال للمتشابه هنا. أما النقد، وعلى عكس الحكم، فيتضمن «تقويم» الأمر، أو أي شيء محل النقد.. والتقويم يستند على قاعدة موضوعية، على نقيض القيمية أو المعيارية الحادة، تختلف من مجال لآخر، وليست واحدة، كما هو الحال في مسألة الحكم القيمي الذاتي البحث.. فالناقد الأدبي مثلاً إنما يستند إلى قواعد عامة متفق عليها بين جماعة من النقاد، حول ماهية العمل الأدبي مثلاً، أو بنيته أو مصادر الجمال فيه، أو غير ذلك.. والمراقب والمحلل السياسي يتابعان الحدث ويحاولان تقويمه بناءً على قاعدة معينة، مثل قاعدة المصلحة، فيقولان مثلاً: إن ذلك يسير وفق المصلحة محل الاعتبار، وذاك لايسير، وهكذا. قد يختلف النقاد، في هذا المجال أو ذاك، وفقاً لاختلاف تياراتهم ومدارسهم ونحو ذلك، ولكنهم ينطلقون دائماً من قواع د«تقويمية» وليست «تحكيمية».. فناقد القصة أو الرواية مثلاً، يقرر أن العمل الذي بين يديه يحتوي على عناصر الرواية أو لايحتوي، ويبين عناصر القوة والضعف، ثم يقرر تقويمه للعمل محل النقد، من حيث الضعف والقوة، وهكذا.. ولكنه لايقرر أن ما قام به المؤلف «جائز» أو غير «جائز» مسموح أو ممنوع، خيانة أو وطنية، كفر أو إيمان.. فهو في مثل هذه الحالة يحكم ولاينقد، وبذلك يخرج من فضاء النقد الأدبي، إلى فضاء الحكم القيمي.. ذلك لايعني التقليل من شأن أحدهما على حساب الآخر، ولكنه يعني ببساطة أن لكل شأن مجاله الذي إذا تخطاه اختلطت الأمور، وضاع النظام الذي هو مصدر المعنى للأشياء والعلاقات. وذات الشيء ينطبق على المتعامل مع الشأن السياسي، فهو يقرر أن هذا الحدث، أو ذاك الأمر، مضر بالمصلحة الوطنية أو غير مضر مثلاً، حتى وإن اختلف مفهوم المصلحة الوطنية باختلاف الخطاب الصادرة عنه، ولكنه لايقرر أن ذلك جائز أو غير جائز، خيانة أو وطنية، انتهازية أو إيثارية.. مثل ذلك التقرير هو حكم وليس تقويماً، وبالتالي فهو ينقل القائل به من فضاء المشارك في الشأن العام، إلى فضاء القاضي في الشأن العام، وكل ذلك إنما يعبر عن عقل سياسي استبدادي، حتى وإن كان يرطن بالديموقراطية في كل لحظة وكل حين.. والاستبداد الثقافي أشد مرارة، وأكثر تدميراً من الاستبداد السياسي. ويبدو، في هذا المجال، أن العقل الحزبي، والبنية الأيديولوجية لهذا العقل، مازالت مسيطرة على الثقافة العربية المعاصرة، والمتعاملين معها، رغم التجارب التي عانتها المجتمعات العربية من جراء سيادة ذلك العقل. فالحزبي، عقلاً أو تنظيماً، والأيديولوجي بصورة عامة، ينطلق من ثنائية «مع» أو «ضد» حين تعامله مع أي أمر.. أي أنه ينطلق معرفياً من علاقات الشيء، قبل الشيء نفسه.. بينما ينطلق المثقف، أو ما يفترض أن يكون كذلك، من أرضية معرفية تحاول أن تستوعب أي أمر من خلال فهمه بذاته أولاً، ثم من خلال علاقته بي أو بالآخر.. فطبيعة الحزبي هي إصدار الأحكام في إطار ثنائية الذنب والبراءة، وطبيعة المثقف هي الفهم والتقويم، ومن ثم اتخاذ الموقف، في إطار تعددية الممكن، وحرية الموقف. وعودة إلى كوبنهاغن، يمكن القول: إن كل هذا القيل والقال الذي أثير حولها، وكل ذلك التكفير والتخوين والتآمر الذي أحيطت به، مصدره العقل الحزبي الذي هو بالضرورة أيديولوجي، والذي يحكم ولاينقد.. ليس معنى ذلك أن نقف موقف التأييد من إعلان كوبنهاغن وجماعته، حتى لا نكون من المؤدلجة عقولهم.. ولا يعني ذلك أيضاً الرفض القطعي للإعلان وجماعته، حتى نكون من البريئة سرائرهم.. ولكنه اتخاذ موقف نابع من فهم لذات الحدث، وما يحيط به من ممكنات، ومن ثم التأييد أو المعارضة، في إطار من النقد لا الحكم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الموقف النقدي من أي حدث أو شأن، يعني التسليم بحق أي أحد أن يعبِّر، مدنياً وسلمياً، عما يراه سليماً وصحيحاً وفق رأيه.. والتسليم في ذات الوقت بحق الأحد الآخر أن يعبِّر عن رفضه لما يراه الأحد الأول، ولكن ليس له الحق أن يسلبه ذات الحق، بنفس القوة التي ليست للأحد الأول أن يسلب الأحد الثاني حقه، عن طريق إصدار أحكام الذنب والبراءة، التحليل والتحريم السياسي، فيما يتعلق بالشأن العام.. أما الحكم بين «الأحدين» ومواقفهما، من قول أو فعل، فهو متروك لمدى فاعلية وعملية هذا الرأي أو ذاك، من خلال ما يتحقق فعلاً، وعلى أرض الواقع، طالما أن المجال مفتوح للجميع. فالمعارضون لما جرى في كوبنهاغن، أو غيرها، يرون أن ذلك نوعاً من التطبيع مع حكومة متغطرسة مغتصبة، وذاك مرفوض من الأساس.. والمؤيدون للاجتماع والإعلان، يرون أن ذلك أحد الممكنات المتاحة للضغط على الحكومة الإسرائىلية، والرأي العام الإسرائيلي، وفق فهم معين لآليات النظام السياسي في إسرائىل.. قد ينجح مثل هذا العمل، وقد لاينجح.. فإن نجح، فذاك هو المطلوب، وإن فشل، فليس هناك ما يخسر، خاصة وأن الأمور تسير كما نرى. ولكن بعض المعارضين من أصحاب التحريم السياسي، لمثل ما حدث في كوبنهاغن، يرون أن المستفيد الأكبر من ذلك هم الإسرائيليون، الذين نجحوا في اختراق ثقافي بعد أن نجحوا في الاختراق السياسي.. وإذا كان ذلك صحيحاً، أي الاختراق الثقافي، فمعنى ذلك أن الإسرائيليين أكثر قدرة منا في هذا الجانب، رغم عظمتنا الثقافية المدعاة، وبالتالي فإن أسوار الحماية التي نضربها في كل اتجاه لن تجدي فتيلاً، طالما أنها لم تمنع هذا الاختراق، ولم تمنع ما سبقه من اختراقات، ويعني ذلك أيضاً، أن أسوار حمايتنا هذه تعاني من خلل هيكلي، طالما أنها فشلت في منع كل تلك الاختراقات التي أصبحت مصدراً لكل قضايانا المعاصرة، منذ أن دخلت خيول نابليون الأزهر، وحتى دخلت مدرعات دايان الأقصى.. خلل لابد من إصلاحه قبل صلاح أحوالنا، هذا إذا كان همنا هو الإصلاح فعلاً. أما مسألة التطبيع هذه، فهي قضية أشغلتنا وشاغلتنا، رغم أن حلها يكمن في الحركة الاجتماعية نفسها، في نهاية المطارف.. فكلنا يعلم أن التطبيع قبل ذلك كان مرفوضاً مع كل الكيان الإسرائيلي، مهما كان نوع حكومته، واختزل الآن إلى مجرد رفض التطبيع مع حكومة نتنياهو.. وقبل ذلك كله كان مجرد العلاقة مع إسرائىل مرفوضاً، بل محرماً، وها نحن اليوم نصل إلى مرحلة قبول التطبيع مبدأً، ولكن مع هذا الطرف الإسرائىلي، وليس ذلك. وكلنا يعلم أن التطبيع مسألة لا تحل ولا تفرض بقرار سياسي، بل هي خيار اجتماعي أولاً وآخراً.. فالحكومة قد تعقد المعاهدات والاتفاقات، لأسباب سياسية محسوبة افتراضاً، ولكنها لا تفرض التعامل المدني مع من عقدت معهم المعاهدة.. فالمصريون مازالوا في حالة من عدم التطبيع، رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على الزيارة التاريخية لأنور السادات. وبالتالي، وعودة إلى الدانمارك، فإن فشل أو نجاح إعلان كوبنهاغن، من حيث القدرة الإسرائىلية على الاختراق والتآمر، وفق رأي المعارضين، أو التأثير على الرأي العام الإسرائيلي، وفق ما يقول به المؤيدون، إنما هي مسألة يفصل فيها اجتماعياً وليس سياسياً، الرأي السديد هو الذي سيجد قاعدة اجتماعية متسعة، ومن ثم النجاح أو الفشل، والعكس صحيح.. أما مقولات التحريم الحزبي والسياسي المجردة، فمآلها مآل المقولات نفسها، التي كانت ذات يوم تحرم الاجتماع بكل الإسرائىليين، ثم تحولت إلى تحريم الاجتماع ببعضهم، وقد نصل إلى مرحلة تحريم الاجتماع بأحدهم فقط، ونحن إلى ذلك واصلون. خلاصة القول هي أن ذهنية التحريم، ومنطق التجريم، لن يؤديا إلى أية نتيجة عملية في صالحنا.. وبدون الخروج من دهاليز هذه الذهنية، فبشِّر أهل بيزنطة بالجدل العقيم.