تتسع يوماً بعد يوم الحاجة إلى تفكيك مركزية الإدارة وسلطة القرار، بوصفهما يميلان إلى احتكار الرؤية وأحادية النظرة لمعالجة المشكلات ووضع الخطط وتنفيذ الاستراتيجيات التي تنزع إليها بعض المؤسسات الرسمية، في حين واقع الحال يشير بضرورة العمل على تفكيكها وفق منهجية جديدة تعطي صلاحيات واسعة للهامش المحلي، كونه هدفاً أساسياً في ترسيخ قواعد العمل التراتبي المؤسسي، وصولاً إلى تفعيل مفاصل المجتمع وزواياه المتعددة، في سياق العمل على مشاركة مجتمعية تكاملية ترتفع بالغايات والأهداف إلى مستوى من الوعي بطبيعة المرحلة التي تمرُّ بها حركة الحياة في المجتمعات البشرية كافة، مرحلة تعطي مساحة من الحركة الذاتية للمجتمعات الصغيرة، بدءاً من أصغر مكون فيها وأبسطه إلى أعقده وأكثر فضاءً فيه. ولكن، كما يبدو، أن مثل هذه الانشغالات المؤسسية لا تجذب أصحاب القرار في مؤسساتنا المركزية الكبرى - وزارات - والصغرى - السلطة المحلية وفروع الوزارات في المحافظات. من هنا نجد الكثير من المعاناة والتشتت والتخبط والاعتماد على العشوائيه والمصلحة النفعية المقيتة لهذا المسؤول أو ذاك. فتبرز في الجسد الكثير من النتوءات المتقيحة التي تصيبه بالشلل التام والموسمية التي لا تؤدي إلى تراكم خبرات وتعميق أساليب المعرفة والنظرة العلمية لوضع الحلول والمعالجات لهذه القضية أو تلك، ولهذه المشكلة أو تلك. وتصبح المركزية قاتلة وكابحة للكثير من المقومات والتنويعات والخصوصيات التي تحتضنها المحليات والوحدات الصغرى في المجتمع، وتبدأ عملية الصدام بين المركز وفرعه في المحافظات أو المديريات، لتنشأ من ذلك علاقات توتر وترقب وترصّد لأخطاء المركز من قبل الفرع، ويمارس المركز سيطرته على الفرع، في رحلة عذاب تبدأ ولا تنتهي، لتصبح القاعدة المريحة للطرفين (عش وعيّش، واعرف حجمك) لتستمر في موقعك. فتسود علاقات سيئة ليست لها علاقة بالعمل المؤسسي التراكمي الذي تنهض بفضله الأمم، وعن طريقه يتم تلافي الأخطاء وإصلاح الاعوجاج، والسير معاً برؤية تكاملية تتشكل دائرتها الكبرى من تعدد الصغرى فيها. وهو ما تفتقده الكثير من مؤسساتنا التي تحتكر المعرفة والمصلحة وتعامل الفرع بوصفه نافذة لتجميع الطلبات وتنفيذ الرغبات تنتهي مهمته بعد تسلّم الملف وتحقيق الرغبة.