النظريات المادية الفلسفية الأوروبية تستقيم على المنطق البرهاني الرياضي الجبري، وهي لا ترى ما سوى ذلك، وتقرأ الظواهر وفق تلك المعايير، بما في ذلك ظاهرة العنف. ويعتقد الماديون الأوروبيون أن العنف المجتمعي نشأ مع أول تقسيم اجتماعي للعمل والذي أدّى بدوره إلى تقسيم الملكية، فلم يعد صاحب الوفرة يعتمد على ما لديه للاستهلاك، بل يتبادل مع الآخرين “المقايضة البدائية”، وبالتراتب نشأت إمكانية لوجود فائض في الإنتاج لدى هذا الفرد أو ذاك، الأمر الذي جعل من الزواج وتكوين العائلة وسيلة للحفاظ على تلك الثروة، والدولة أداة قمع بيد المالك.. هكذا!!. وينظر المادي لعنف الدولة التاريخي بوصفه عنفاً طبقياً لصالح الطبقة المسيطرة، ويعتبر الآراء والأفكار التي نشأت عطفاً على الممارسة مجرد تغطية لتبرير ذلك العنف وإكسائه طابعاً أخلاقياً، فالدولة على مستوى الظاهر تمثل الناس جميعاً، لكنها في جوهرها لا تمثل سوى الطبقات المُسيطرة. كان “كارل ماركس” أفضل أكاديمي كلاسيكي لنظرية العنف المنطلقة من البرهان المادي، فقد توقف أمام ظاهرة العنف في التاريخ ولم يبتعد كثيراً عن مرئيات صديقه “فريدريك انجلز” وإن كان تفرّغ مديداً لبحث العنف في المجتمعات البرجوازية، وأسهب أيضاً في كيفية توظيف الدين لصالح العنف مما هو معروف في مدى التاريخ الأوروبي بخاصة والإنساني بعامة. فالمحاكم الكنسية في أوروبا الاقطاعية برّرتْ عنف النبلاء، واعتبرت أن المجتمع الإقطاعي القروسطي أفضل نموذج لتحقيق السمو المسيحي!!، تماماً كما اعتقد منظرو البرجوازية لاحقاً، وقالو بأن المجتمع البرجوازي هو أفضل المجتمعات تحقيقاً لطموحات الناس وآمالهم. كانت محاكم الغفران الكنسية بمثابة الكابح الأكبر للتطور العلمي المعرفي في أوروبا القرنين الرابع والخامس عشر، الأمر الذي أدّى إلى مفارقة أثبتت دهاء التاريخ وسخريته، فلقد انبثقت الثورة المعرفية الأولى من داخل الكنيسة مُمثلة في رموزها الكبار ابتداءً من “توما الاكويني” ثم “سافونارولا” ولاحقاً “مارتن لوثر” الإصلاحي.