إذا كان ابن خلدون اعتمد ثنائية الريف و الحضر في نظريته الاجتماعية الخاصة بأعمار الدول فإن كارل ماركس اعتمد ثنائية من نوع آخر حيث اعتبر أن العلاقة بين البناء الفوقي و البناء التحتي هو أساس تطور الدول و المجتمعات البشرية، كما اعتبر أن البناء التحتي موصول بالإنتاج المادي أو بالوجود المادي للمجتمعات، فيما رأى أن البناء الفوقي موصول بالأفكار و الوعي الاجتماعي للبشر . و كانت فكرة الصراع بين الثنائيات أساساً اعتمده الاثنان، و في الوقت الذي رأى فيه ابن خلدون أن صراع الحواضر و البوادي يحكم تاريخ الدول فإن ماركس رأى أن صراع الطبقات المستغِلة مع المستغَلة هو سبب دينامية تطور المجتمعات البشرية . اعتمد ماركس نظرية التشكيلات الاقتصادية و الاجتماعية في قراءته للتاريخ البشري، و قد توازى في هذا الباب مع ابن خلدون من حيث النزعة النووية القائلة بأن تاريخ البشرية يجري بصورة حلزونية، فالمجتمعات البشرية بحسب ماركس مرت بخمس مراحل، هذه المراحل الخمس تشكّل بمجموعها دائرة مغلقة ستعيد إنتاج نفسها حالما تكتمل، و قد افترض ماركس أن هذه المراحل تشمل ما يلي : المجتمع المشاعي الأول : الذي كان فيه الإنسان يعيش على الاصطياد و ثمار الطبيعة الجاهزة، و الذي وصل في مرحلة متقدمة منه إلى ما أسماه التقسيم الاجتماعي للعمل، والمقايضات البسيطة مع تباشير لتمركز النفوذ الأبوي، و سيطرة الأقوياء على موارد الإنتاج . المجتمع العبودي : الذي شهد ظهور الدولة بوصفها أداة استغلال وهيمنة للطبقة المسيطِرة، و قد اتّسم الإنتاج في هذا المجتمع بالسخرية المكشوفة و استعباد العامة، كما نشأت النظريات المرشّدة لهذا النموذج و خاصة عند" أفلاطون " الذي قال في جمهوريته الافتراضية بأن المجتمع الفاضل تقوده النخبة الرائية العالمة، و يتحول فيه العامة إلى مصدر لاستيعاب رؤية النخبة و تنفيذ مشاريعها في المجتمع . لم يكن أفلاطون يدرك أنه بتبريره للظلم سيفتح الباب لثورة العبيد في " اسبارتا "، و أنه سيمهد لنهاية مجتمع العبودية التاريخي . المجتمع الإقطاعي : حيث تصل الدولة إلى نقطة متقدمة في الهيمنة معتمدة على الماورائيات و الروحانيات، و لعل أوروبا القروسطية أفضل مثال لاستجلاء العلاقة التحالفية بين الإقطاع و الكنيسة، و كيف أن الكنيسة لعبت دوراً حاسماً في ترسيخ مظالم النبلاء الإقطاعيين و كبح التطورات العلمية و المعرفية . و الأمثلة في هذا الباب كثيرة ، نذكر منها تمثيلا ً لا حصراً : المفكر الغنوصي " جوردانو برونو " الذي تم حرقه بالطريقة الإقطاعية الكهنوتية، فقد كانوا يحرقون المفكرين و العلماء بعد ربطهم بأعواد خشبية، و جمع كتبهم، فتبدأ ألسنة اللهب بالتصاعد إلى أن تلتهم جسمه ببطء مريح ، إمعاناً في تعذيبه، وإنذاراً لكل من تسوّل له نفسه الخروج عن التعاليم الكنسية . نذكر أيضاً ، و على سبيل المثال ايضاً " غاليلو غاليليه "، و كيف أُرغمَ على إنكار ما وصل إليه من استنتاج حول دوران الأرض وكرويتها، حتى أنه جاهر بالقول : " و لكنها لا تدور " ، فأنقذ نفسه من هلاك محتّم . المجتمع الرأسمالي : و قد جاء عطفاً على انهيار الإقطاع و نشوء البرجوازية فيما لا يتسع له المقال . و أخيراً و ليس آخراً ، قدم ماركس نموذج حلمه الألفي المشاعي الجديد في مجتمع الوفرة المثالي حيث يسود شعار" من كل حسب قدرته و لكل حسب حاجته "، غير أن هذه الأحلام الطوباوية تحطّمت في التجارب الاشتراكية التي ازدهرت بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تحولت إلى اوليغاركيا حزبية، فكان ما كان في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوروبا الشرقية، و لم ينج ُ من المصير الدراماتيكي سوى التجربة الصينية التي تأسّت بالحكمة الصينية .