ليس هناك ما يعطل خطوات التقدم في أي بلد سوى استسهال الأخذ بأساليب الفهلوة الثقافية وتغييب الثقافة الحقيقية التي هي أساس وركيزة أي تقدم.. وقد سجلت اليمن أعلى النسب في بناء المساجد، حيث يتسابق الجهد الرسمي والأهلي على بنائها في المدن والقرى، في الوقت الذي لا يوجد في اليمن سوى مركز ثقافي واحد لا يفتح أبوابه إلا في المناسبات. وبالرغم من كثرة المساجد؛ إلا أننا أقل الشعوب ارتياداً لها، فالشعب اليمني مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لكنه شعب لا يؤمن بالثقافة. الناس في بلادي يتبرعون لبناء المساجد، يجمعون الصدقات والزكاة ويذهبون إلى البلدان المجاورة يجمعون المال لبناء مزيد من المساجد. والذين يتصدرون المشهد الثقافي يسرقون الفتات الذي يخص الثقافة، ويمتنعون عن طباعة كتاب لمبدع أو شراء نسخ منه!!. في اتحاد الأدباء والكتّاب كان في الأمس أعمى يقودنا نحو النور، وكان صاحب ثورة أدبية وفكرية وموجهاً فكرياً، وكان من المناصرين للتجديد في الثقافة والأدب والحياة. واليوم يقودنا مبصرون نحو الجهل والتعصب، وفرضوا على المثقف أن يتحول من مبدع فرد إلى عضو في جوقة وتنظيم يُملى عليه كل شيء. أصبح اتحاد الأدباء والكتّاب يعاني من ثقافة الصفوف الخلفية، حيث تقدم السياسي وتوارى الثقافي. لقد أصبح الاتحاد عبارة عن مكان لتعاطي القات، وغاب الإنتاج الثقافي، وضاعت الميزانيات في بدل سفر لأفراد لا يتجاوزون الخمسة!!. غاب المثقف وتصدّر المشهد المشتتون فكرياً، المتقاسمون دم الثقافة ليحولوا المثقف إلى مثقف سلطة ومعارضة. وليقدموا الثقافة على أنها سفريات واحتفاءات كذابة؛ في الوقت الذي أصبح فيه من ينتمي إلى الاتحاد ويقف في الصفوف الأمامية وهو يدعو إلى الانفصال. أتدرون لماذا؟! لأن هؤلاء لم يقرأوا عن الرعيل الأول من الذين أسسوا الاتحاد وهم لا علاقة لهم لا بثقافة ولا بوطن.. فكيف إذا سحب أعمى أعمى مثله؟!.. فلا شك أن مصيرهما أول حفرة في طريقهما. لقد كان عمر الجاوي والشحاري والبردوني وباذيب وغيرهم لا يحصون مثل زرقاء اليمامة أصحاب بصر وبصيرة. لكن المثقف اليوم صودر دوره، وانتهكت حقوقه، واستلبت إرادته، وأصبحت الأجهزة الخلفية تفكر نيابة عنه، وسيذهب إلى الانتخابات القادمة وقد تم الاختيار لقيادة الاتحاد نيابة عنه. لقد فقئت عين المثقف لأنه يرى مالا تراه أعين أخرى.. فدوره هو رصد الواقع وصياغة الرؤى المستقبلية لجماعته، لهذا السبب حوصر، وضربت الأسوار حوله من المرتزقة وأدعياء الثقافة. تبدو العلاقة بين المثقف والسلطة ملتبسة؛ هناك علاقة تضاد وتكامل، وعلاقة احتواء، تتوجس السلطة من المثقف المستقل، فتجعل منه ضداً وخصماً، ويصبح كل ما يصدر منه قابلاً لتأويل عكس.. وطنيته متهمة، وولاؤه موضع تساؤل!!. وحينما تكون العلاقة بالسلطة علاقة احتواء يتحول المثقف إلى بوق يضلل السلطة عن الحقيقة وينحدر إلى مستوى الأداة التي تستخدمها السلطة لإضفاء شكل أخلاقي على ممارسات لا أخلاقية. لقد ابتلينا بفئة تقود المشهد الثقافي؛ تعمل على تغييب الوعي الجمعي وتقوم بتزييف الحقيقة على حساب الروح النقدي الذي يقوم به المثقف الفاعل. لقد آن الأوان لأن نصارح الاتحاد بأنه خلال الفترة الماضية لم يكن يمتلك مشروعاً ثقافياً، ولا سياسة إنتاجية لإنتاج الثقافة، وهذا شيء طبيعي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. لم يستطع حتى إقامة ندوات سوى تلك التي قام بها أفراد كأحمد ناجي أحمد ومحمد القعود. ومع كل ما سبق فمازلت آمل أن يبقى المثقف اليمني في دائرة الحلم، ويطمح إلى لعب دور تنويري داخل مجتمعه وداخل مؤسسة الاتحاد. فهو الوحيد الذي يستطيع قهر الظروف لأنه يملك الحرية الكافية التي تتيح له العمل وفق ما يتطلبه موقفه الثقافي، لأنه المعنى بتوصيل صوت الصامتين وأنين المعذبين واستشراف الرؤى لهم، فالأيام القادمة تحمل لهم مخاطر شديدة. ومن الأهمية بمكان أن يدافع المثقف عن حريته ويشارك لإرساء دعائم تلك الحرية المسئولة. ويبقى القول الفصل في من سيخوض عملية التغيير في الانتخابات القادمة؛ ذلك مرهون بمغادرة المثقف منطقة الجمود، واستبدال الانهزامية بإصرار جديد، ومراجعة السلوك الثقافي المتراجع. على المثقف أن يصبح أكثر من متسول على أبواب الوزارات والمؤسسات لبيع كتبه، وأن لا يتقبل الصدقات. ولابد من إعادة النظر في النظام الأساسي للاتحاد؛ إذ كيف يستطيع المرء أن ينتخب رئىس الجمهورية مباشرة لكنه لا يستطيع أن ينتخب رئىس الاتحاد إلا عن طريق مندوبين؟!. نحتاج إلى إعادة الاعتبار للاتحاد لنرمم من خلاله تلك الخسارات الكبرى ونعيد محاولة الصحو لنصنع المستقبل. إن الاتحاد يحتاج إلى قيادة جديدة تهتم بالفجوة التي تفصل بين الثقافة كشعور؛ أي ثقافة الناس الذين لم يشعروا قط بالحاجة إلى الخلاص، والثقافة الرفيعة للمثقفين، أي الذين يرغبون دوماً في أن يصبحوا شيئاً مختلفاً عمّا هم عليه في الحاضر. وعلى الأحزاب السياسية أن ترفع يدها عن الاتحاد، والتخلي عن البحث عن صورة محددة للمثقف؛ لأن ذلك لا يخدم الثقافة؛ وإنما يخدم دعاة الجهل والتطرف وأصحاب الثقافة الشفاهية. إن حرية المثقف ضرورية للحالة المعنوية للمجتمع الديمقراطي.. فلتقولوا كلمتكم أيها المثقفون.