المواطن هو الذي يصنع الغلاء، يعضده في ذلك موظفون منفلتون يرسلهم مكتب التموين دون متابعة لهم ولا رقابة ولا محاسبة ،كأن مكتب التموين لا يريد فيما يفعله وجه الله ولا الرفق بالمستهلكين الضعفاء الذين قصم ظهرهم الغلاء ولا استشعاراً للواجب أو المسئولية الملقاة على عاتقهم في ضبط أسعار السلع التي تتفاوت أسعارها من دكان إلى دكان ومن سوق إلى سوق في المحافظة الواحدة، ناهيك عن تلك الفروق في الأسعار بين محافظة وأخرى. فماذا يعني ذلك؟ماذا يعني أن يباع كرت «الجوال» على سبيل المثال بمبلغ ثمانين ريالاً في عدن ثم تجده في تعز يباع بتسعين ريالاً!فماذا يعني ذلك؟ فالكرت كما نعلم ليس له وزن ولا يحتل حيزاً ولا يحتاج من يدفع له أجرة مواصلات ولا أجرة حمالة ومع ذلك فالفرق بين سعره هنا وهناك مائة ريال وليس عشرة أو عشرين ريالاً.. فماذا يعني ذلك؟.. ولماذا هذا التفاوت غير المبرر في الأسعار؟ يغسل الثوب في عدن بالبخار بمبلغ سبعين ريالاً في بعض غسالات البخار والبعض الآخر بزيادة عشرة ريالات أو عشرين ماعدا أولئك الذين يفتحون غسالات بخار في تعز فإنهم يرفعون الأسعار أيضاً في محلاتهم في محافظة عدن، لأن التموين ساكت عنهم هنا وهناك؟!...يباع الكيلو البطيخ في عدن بخمسين ريالاً أما في تعز فالبائع يتحكم بالثمن كما يشاء..وهكذا قس على ذلك سلعاً كثيرة نحن نعلم أن الله تعالى قد أحلّ البيع وحرم الربا، كما حرم أن نبخس الناس أشياءهم، وحرم التطفيف في الكيل والميزان.. في البلدان المتقدمة نجدهم لا يحتكمون إلى القرآن الكريم ولا إلى السنة النبوية الشريفة لأنهم ينكرون القرآن وينكرون النبي وكل ماجاء به، لكنهم يعتمدون في تعاملاتهم وبيعهم وشرائهم على وعي المواطنين عندهم، فالمواطن هناك من شدة وعيه ونضجه وحرصه على استقرار الأسعار، فإنه نفسه يقوم بدور المراقبة، وهذا مثال أسوقه للقارئ لتأكيد دور المواطن. ارتفع سعر الأسماك فأضاف بائعو السمك خمسة بنسات للكيلو من السمك، خمسة بنسات فقط وليس خمسين ولا مائة كما هو حاصل في بلادنا.. حين يضيف بائعو السلع المختلفة ما يشاؤون من أسعار ، فاليوم لهم سعر وغداً لهم سعر آخر قد يرتفع إلى الضعف ولا نجد من يحرك ساكناً!! ومن منا لايعلم أن البريطانيين يعيشون في بحبوحة من العيش وفي رفاهية وفي رغدٍ وازدهار مقارنة بالعالم الثالث، ومع ذلك عندما ارتفع سعر السمك خمسة بنسات للكيلو الواحد قررت النساء أن السمك لايلزمهن ولسن بحاجة أن يشترين السمك...فاضطر السماكون إلغاء الخمس بنسات. لقد استفاد الأوروبيون من مبادئ الإسلام وقيمه في البيع والشراء منذ القرون البعيدة عندما كان نوره يسطع في الاندلس فتضاء سماء أوروبا كلها فلم تهتدِ بنوره قلوبهم ،لكن عقولهم أخذت منه ماكانت تفتقر إليه من أخلاق ومبادئ وقيم أضاءت لهم دروب الحياة التي كانت مظلمة وكئيبة ليس فيها سوى القسوة في الطباع والغلظة في السلوك.. ولولا موقعة «بواتيه»لأشرق الإسلام بأنواره كل ربوع أوروبا، أما نحن فإن هذه الغفلة التي يعيش في كنفها البائعون والمشترون قد جعلت بعض البائعين لا يقيمون للعقيدة وزناً في بيعهم وشرائهم، فالبائع الشاطر عندهم هو الذي يخدع المشتري فيحلف بالطلاق وفوق رأس الجهال أنه يبيع بخسارة أو بربح زهيد جداً وهو يعلم أنه كاذب، وهناك بعض المشترين من الذين لم يتعبوا في الحصول على المال.. لم يبذلوا أي جهد فيما يدفعونه للجزار والسماك وصاحب البقالة أو ما شئت من السلع المستوردة أو غير المستوردة من تلك التي لم يعد الكثيرون من الناس قادرين على شرائها إلا من كانوا ميسوري الحال ممن أغناهم الله أو سهّل لهم الرزق الحلال.. وليس هناك ما نأخذه على أمثال هؤلاء سوى حثهم على مزيد من الصدقة والعطاء لمن يستحق الصدقة والعطاء من الناس أما أولئك الذين يحصلون على أرزاقهم من «فوق المَلَحّة» طازحاً، بسبب طبيعة عملهم: هذا حامل أختام وهذا ماسك سجلات وهذا «مُطوّف» في مستشفى يدل المرضى على العيادات الخاصة وذاك شغل نفسه بالجري هنا وهناك...أو هناك أيضاً من عقدوا حلفاً مع إبليس يشعلون الفتن بين المتخاصمين، يتحيزون لهذا ويجورون على ذاك..فماذا يضير أمثال هؤلاء أن يزوروا اللحّام والسماك والبقال كل يوم فلا يفاصلون بشيء وماذا يضير الواحد منهم أن يخرج يده من جيبه أو جناحه ويعطي أصحاب هذه السلع الثمن الذي يطلبونه؟ إنهم يرون الثمن زهيداً وربما يظنونه أرخص من التراب، لأنهم حصلوا على المال كما يحصل «الطيان» على مادة الصلصال في أرض فَرشُها الطين والتراب. ولا عجب إلا من أصحاب البقالات والسماكين واللحامين وهم يطرون كرم أولئك الذين يدفعون لهم الثمن دون مبايعة ولا مفاصلة، حتى لو ضاعفوا السعر عليهم يبشّون في وجوههم وترقص عيونهم ابتهاجاً بهم...في حين أنهم يتجهمون في وجوه أولئك الذين يعبرون عن حزنهم في أنهم لا يستطيعون شراء السلعة بسبب ارتفاع سعرها...وقد جرت العادة أن يُسقط أصحاب هذه المحلات حساب موظفي التموين من أذهانهم ، لأنهم يعلمون أن مشاعر موظفي التموين هي مشاعر حساسة ورقيقة، فهو لايعتبر السلعة باهظة اليمن إلا إذا رفض صاحبها أن يعطيه أتعابه؛ «كرامة الوصال».