أسهل شيء في عالم المماحكات السياسية هو التنصل من المسئولية وإلقاء التهم جزافاً على الأطراف الأخرى، وتحميلها كل الأوزار حتى التي لم تقترفها بعد.. وفي عالم السياسات غير المدروسة تصبح كل الأحداث قابلة للتوظيف السياسي والمماحكات وتصفية الحسابات التي قد لا تكون حسابات حقيقية، لكنها نتاج قصور في الوعي أو غباء، وفي ذات الوقت ليست كل القضايا تقبل المساومة ولغة البيع والشراء، وعندما يحدث هذا الأمر تتحول الأوضاع من عالم السياسة إلى عالم النخاسة. هناك معايير كثيرة تقتضي وتقضي بأن تُقدم المواقف المبدئية على المواقف السياسية أو تحتكم هذه الأخيرة للمبادئ والقيم النبيلة حتى لا يتحول مسارها إلى طريق الانتهازية والاستغلال القبيح للاحداث، وليس من المؤكد ضمان نتائج المواقف المجردة من المسئولية والمبادئ.. فماهو حاصل اليوم في بعض المحافظات الجنوبية حيث اختلطت أساليب الفوضى بالمطالب المشروعة في جانبها الحقوقي الذي لم يرفضه أحد وجرى التعاطي معه بكل مسئولية من قبل الحكومة وتمت معالجة الكثير من المطالب ولم تزل المعالجات مستمرة لما تبقى من مشكلات ومعضلات متراكمة من زمن طويل، لكن الأمور بدأت تسلك طريقاً مختلفاً في الآونة الأخيرة وتأخذ أبعاداً غير مشروعة بمقياس المصلحة العامة وهي المصلحة الوطنية،وخرجت عن سياق المطالب التي ينبغي الالتفات إليها والاستماع لها وتلبيتها ومعالجة المشكلات الواقعية التي لا مجال لتجاهلها، غير ان الأساليب والمواقف التي بدأت تطفو على سطح المشهد قد وضعت تفسيراً مختلفاً لما وراء ما يحدث اليوم على الأرض من أعمال تخريب وفوضى ودعوات ضد الوحدة المباركة وممارسات لا علاقة لها بالمطالب المشروعة. هنا يجب أن يقف الجميع، فالمسألة لم تعد كما بدأت والأهداف بدأت تتكشف واتضحت بما فيه الكفاية والناس على درجة من الوعي تمكنهم من إدراك حقيقة ما يحدث وأبعاده، ولم تعد المسألة متعلقة بالسلطة أو الدولة وحدها لكنها متعلقة بكل الأحزاب والقوى السياسية والمنظمات بمختلف أنواعها والناس جميعاً لأن الأمر لم يعد مطلباً أو مطالب في نطاق الدستور والقانون وما يحدث في حقيقته يستهدف مصالح الناس جميعاً في طول البلد وعرضه ويستهدف المستقبل ويهدد الأمن والاستقرار في البلد وكل هذا يبدأ من فكرة معاداة الوحدة ووضعها موضع المقايضة مع المصالح الشخصية، وكل من له مشكلة أو فقد مصلحة وضعها مقابل الوحدة.. هكذا يبدو الحال وهكذا هي الحقيقة لو جرى التركيز قليلاً على حيثيات ما يجري وعلى طريقة التعبير عن الآراء والمواقف عند من يدعون بدعوات مضادة للوحدة وعند من يسوقون لهم المبررات ويتناولون الاحداث في وسائل الإعلام المختلفة وكأنهم خارج نطاق هذا البلد أو كأن أمر هذا البلد لا يعنيهم ولا يهمهم بشيء.. التعاطي السياسي السلبي مع قضية من هذا الحجم لا يعد من السياسة بشيء ولا من الحكمة والعقل. والتنصل عن المواقف المبدئية وتحميل السلطة وحدها المسئولية له علاقة بالاستغلال ومحاولة الظهور مهما كان الثمن وهذا يؤكد ان البعض لا يهمه سوى مصلحته أو مصلحة حزبه أولاً ومن ناحية ثانية كأن هؤلاء لا يدركون المخاطر الحقيقية المترتبة على ما يحدث وعلى مواقفهم وكتاباتهم وعلى كل عمل لا يفرق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة ولا يقيس الأمور بمقياسها الحقيقي.. المبالغة واعطاء صورة أكبر لما يحدث وتصوير الأمر على أنه بداية النهاية يهدف لخدمة أصحاب مشاريع التمزق ويعطي لهم حجماً أكبر من حقيقتهم وهو ما ينعكس سلباً على البلد، لكن التهوين والاستهانة والتقليل من شأن ما يحدث ليس هو القصد أو الهدف إنما كيف يجب ان يتعاطى الجميع مع قضية من هذا النوع كمبدأ عام لا يقبل المساومة ولا تحركه المصالح الشخصية ولا يستغل ما يحدث لاغراض سياسية مهما كانت النتائج مدمرة وعلى حساب الحاضر والمستقبل.