لم يستمتع سكان العاصمة يوماً بمشهد أكثر من استمتاعهم هذه الأيام بمنظر الشوارع الغارقة بعربات بيع المانجو، وبشر مثقلين بأكياس المانجو، وتلاميذ مدارس يتمازحون بقذف بعضهم البعض بالمانجو، وحتى أكداس النفايات طغى عليها لون قشور المانجو، فهذا العام على ما يبدو «عام المانجو» حيث وصل سعر كيلو المانجو إلى خمسين ريالاً، وأقل منه ذلك للنوعية الأقل جودة، وأصبحت البقالات تبيع المانجو بالكراتين.. والكل يشتري طالما والسعر بسعر التراب. وبالطبع الناس تشتري من غير أن تسأل : لماذا، وكيف أصبح سعر المانجو أدنى من ثمن حبة شوكولاته في الوقت الذي تتسابق أسعار كل شيء في الصعود؟.. فالموضوع ان هذا العام ليس عام المانجو، بل عام «نكبة مزارعي المانجو» إذ إن البلدان التي تستورد الجزء الأعظم من إنتاج المانجو اليمنية رفضت ادخالها، لأن طرق التسويق متخلفة، ولان هناك اعتراضاً على أنواع المبيدات التي يستخدمها مزارعو المانجو في اليمن، وبالتالي فإن الكميات الهائلة التي كان يفترض أن تدخل أسواق دول الجوار وتعود بالعملة الصعبة، عادت أدراجها إلى السوق المحلية لتباع برخص التراب. الأمر لا يتعلق بالمانجو وحدها فالأصناف الأخرى من الفواكه تشهد أيضاً انخفاضاً بالأسعار، لكن كميات انتاجها القليلة منعها من السقوط المريع الذي هوت إليه المانجو، وللأسف بعد فترة سيواجه «الحبحب» ذات المصير، وسنجد الطماط ترمى علفاً للأبقار في مدينة «معبر» لأن الجهات الرسمية تفتقر لأدنى رؤية استراتيجية لتشجيع الزراعة، أو حماية المزارعين من مثل هكذا نكبات قاتلة. لست ممن سيلقون اللوم على البلدان المستوردة، فمن حق الجميع استيراد أي منتوج بالمواصفات التي تعجبه، لكني ألقي اللوم كله على وزارة الزراعة ووزارة التجارة.. فهذه الجهات هي التي يفترض بها دراسة تطورات السوق وارشاد المزارعين إلى كل جديد مرتبط بمقاييس الجودة النوعية، والأسواق المنافسة، وأساليب تطوير الانتاج، وتحرص أيضاً على منع توريد المبيدات أو البذور التي هي موضع جدل واشكالية في الأسواق المستهدفة. كما أن الجهات الرسمية معنية أيضاً بتشجيع الصناعات الغذائية التي تمتص الفائض من السوق وتحوله إلى منتوج معلب، فتحافظ بذلك على قدر مناسب من التوازن السعري، فلا يضطر المزارع إلى رمي منتوجه إلى الدواب أو بيعه بسعر التراب.. لكن الملاحظ في اليمن أن حتى مصانع التعليب القائمة تستغل المزارعين، وتماطل في شراء منتوجهم حتى يصبح قاب قوسين أو أدنى من التلف فتشتريه بأبخس الأثمان. ونتيجة لهذا الاهمال، وغياب الارشاد الزراعي، والسياسة القادرة على التدخل في السوق وتنظيمه أو ضبطه تتعرض الزراعة في اليمن إلى نكبة سنوية، وفي كل عام هناك ضحايا.. وهناك من يقرر عدم المغامرة مرة أخرى، ويتوجه إلى زراعة القات التي تدر عليه أرباحاً طائلة.. علماً أن الجمعيات والنفايات المعنية ليست الا نسخاً طبق أصل الجهات الرسمية، بل يمكن وصفها بأنها مكاتب تابعة للوزارات تتلقى توجيهات رسمية.