يخطئ من يتجاهل أهمية وضرورة وضع حد لحالات التوتر والانفعالات والتشنج التي تسود الساحة الوطنية , المسألة لا تحتمل المزيد من المشاحنات والمكايدات والمضي في طريق العناد والمكابرة أو امتطاء صهوة الابتزاز والمزايدة والإصرار على تغذية روح الانفصام والتعبئة الخاطئة المدمرة .. المسألة أيضاً أكبر من أن ينظر إليها بمفهوم عاطفي سطحي عابر أو نوازع فردية أصابها الغبن والضيم ومسّتها أخطاء وممارسات تستوجب المعالجة و التقويم , فهذه الحالات غير خافية وأصبحت ظاهرة تعكس أوضاعاً وأسراراً غير سارة وتحمل في طياتها مخاطر مرعبة ومفزعة لا تقف عند حد التشظي والانقسام , وإنما تمتد لتفريغ كل ما هو جميل ومشرق في هذه البلاد من أي محتوى ومضمون حقيقي . إن أخطر ما يهدد الوطن هو هذا الخلط بين الواجب الحتمي في المراجعة الضرورية لكل آليات ووسائل التعامل في معالجة القضايا والمشكلات والتجاوزات وبين الحق والالتزام بعدم السماح المساس بالثوابت الوطنية أو التراجع عن خيارات الشعب ومكتسبات الثورة، وهذه ركائز أساسية جامعة يقوم عليها بنيان هذه الأمة . وهنا ربما يكون من الضروري التوافق والحسم على أن الثوابت والوحدة الوطنية أمر لا يخضع للمزاج أو المساومة وحاجة الطلب والعرض, لذا ينبغي للجميع الارتقاء إلى مستوى هذا الحدث الكبير والمشاركة والمساهمة في دعمه وتحصينه بآليات وسياسات مانعة ومحصنة . وهذا التوافق الذي أتحدث عنه ينبغي أن ينطلق من سؤال نطرحه على أنفسنا جميعا : إلى أين تذهب بنا تلك المشاريع الضيقة والهرطقات والتعبيرات الجهوية والطائفية والمناطقية ؟ ومن الذي أوصل الأمور إلى هذا المستوى ولمصلحة من يجرى هذا كله؟!. إنه سؤال لا يحتمل أي تباطؤ في طرحه حتى يتمكن شعبنا وقواه الوطنية الخيرة من تحصين أنفسهم قبل أن يداهمنا الخطر , الذي لو وقع لا قدر الله فإنه لن يعمق من حدة حالة الغليان والاحتقان فحسب , وإنما سيدفع الأمور باتجاه طريق مليء بالصراعات والمحن والمآسي والدخول في أتون نفق مظلم . وربما ما يعزز ويزيد من أهمية ما نعني به في هذه السطور سلسلة من الإشارات التي لا يمكن أن تخطئها العين, أولها بطبيعة الحال اتساع حالات التوتر والتشكي المبالغ فيه إلى حد ارتكاب الحماقات الطائشة والمجنونة المضرة بالوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي والإمعان في إثارة الكراهية والتشاحن والحقد الذي لا يرضى به كل ذي عقل رشيد ولا ينسجم من أخلاقيات وقيم شعبنا الأصيلة . نعم .. هناك أخطاء وتجاوزات وقصور يجب أن تعالج وتدرس ولكن بعيداً عن هذه اللغة والثقافة التخريبية والتدميرية التي لا يرجى منها خيراً ولا صلاحاً ولا بناء , بل هي أداة سريعة للهدم و الدمار والخراب . وفي الحقيقة إن هذا الذي نحاول أن نتلمسه ونتحدث عنه ليس توهمات وأحلام يقظة ولكنه نبض مما يعتمل في يوميات وتفاصيل واقع حياتنا المعاشة وهو بطبيعة الحال بالغ الخطورة وشديد السوء , لاسيما أن علامات المخاطر والانزلاقات التي تهدد كياننا ومستقبلنا باتت واضحة وضوح الشمس , وتؤكد بما لا يدع مجالاً لأي شك أننا نقف على أعتاب مرحلة تاريخية حرجة وفاصلة تحتاج من الجميع حسن قراءة الموقف , وتحكيم العقل , والسعي باتجاه الاصطفاف الوطني الواسع في توحيد الهدف والرؤية . ولست هنا أثير ذعراً في النفوس عندما أقول إنه وصل الأمر لدى البعض ممن تبلّدت أحاسيسهم وضمائرهم و ارتهنوا للشيطان الذي أوحى لهم بأن يضمروا كل هذا الشر بأهلهم وأن تترسخ فيهم القناعة والاعتقاد المريض بأن يذهب الوطن والناس أجمعون إلى الجحيم , لإرضاء غرورهم ونزواتهم وحساباتهم الأنانية الضيقة.. فبعد « اللي صار واللي كان مختبئاً بان» وهذا العبث والاستهتار الذي يتواصل بكل شراسة غير عابئ بدعوات تحكيم العقل والمنطق والاتزان ضارباً بقيم الحرية ومسئولية الممارسة الديمقراطية الجادة عرض الحائط يدعو ويحتم على كل الخيرين في هذا الوطن أن يقرأوا الإشارات المرسلة بكل دقة وروية واهتمام وأن تؤخذ الأمور بمأخذ الجد الكافي وأن تبدأ على الفور رحلة استكشاف لآفاق المستقبل وكيفية مواجهة تحدياته ومخاطره بدلاً عن الاستمرار في إضاعة الوقت والجهد في الحديث عن الماضي ونواقصه وسلبياته أو التفرغ لكيل السباب وصنع المعارك الهلامية. فالتحديات - ليست بخافية على أحد - جسيمة وكبيرة, لكن تجاوزها ليس بالأمر المستحيل .. والزمن هو الكفيل بحل جميع المشاكل والمعضلات مهما تعقدت واستفحلت.. فالحق والصواب هو المنتصر الأخير دائماً. [email protected]