كلما قرأت شيئاً عن تاريخ النضال الوطني التحرري ضد الاحتلال البريطاني لجنوباليمن أقف مبهوراً أمام بسالة الثوار، وتفانيهم في التضحية، وفي نفس الوقت يحيرني السؤال حول مصير رواد تلك المدرسة الثورية، ولماذا آلت أمور الحكم إلى سواهم، أو انتهوا إلى غير ما ناضلوا لأجله، أو إلى غير استحقاقهم. اليوم وبعد أكثر من أربعة عقود على تاريخ استقلال جنوب الوطن، تعاود بعض الأسماء القديمة الطفو على ساحة الأحداث حاملة مشاريع غير وطنية، ولا تتضمن أية قيمة سياسية تدل على أن أصحابها سبق أن تعلموا شيئاً من مدرسة العمل الوطني، أو تلقوا أية ثقافة سياسية، نظراً لتناقض مشاريعهم مع كل فلسفات العمل السياسي التي خاضت الشعوب تجاربها.. وهو الأمر الذي يفسر كل ما كان يدور في ساحة الشطر الجنوبي من أحداث عنف دامية، حلت مكان العمل الوطني الخلاق المبني على قراءات متأنية، وبُعد نظر سياسي، واستراتيجيات وطنية. فالسلطة آنذاك ظلت حلبة منازلة لا ينقطع العراك عليها، وبما يؤكد أن الثوار الحقيقيين كانوا غائبين عن الساحة لأن من يقاوم ويحمل روحه على كفه لايمكن أن يتحول إلى طامع بسلطة.. ويستحيل أيضاً أن يهون عليه شعبه، ويقدم أو يتورط في مجزرة تبيد منهم أكثر من أحد عشر ألف مواطن في غضون أقل من أسبوعين على غرار ما حدث في يناير 1986م. إن إعادة تكتل صناع قرار تلك المرحلة السابقة للوحدة اليمنية في نفس عاصمة القوة الاستعمارية التي كانت تحتل جنوباليمن، وتبنيها لمشاريع تشطيرية واختيارها للعنف سبيلاً لبلوغ أهدافها، لا يدع مجالاً للشك بأنها طوال الفترة المحصورة بين الاستقلال والوحدة كانت تنفذ مهمة محددة لها من قبل قوى الاحتلال، وقد عادت إلى قواعدها «البريطانية» لتلقي الأوامر حول المهمة الجديدة... إذ لم يسبق في التاريخ البشري أن عاد بعض ثوار إلى حضن مستعمر للاحتماء فيه.. يبدو لي أن الفرصة سانحة في الوقت الحاضر للقوى النضالية الثورية الحقيقية في جنوباليمن للصعود مجدداً إلى مسرح العمل الوطني، وكشف الحقائق، وإمساك زمام الأمور، ومناهضة هذا الفصيل الذي صادر التضحيات والنضال والاستحقاقات الوطنية، وفرض نفسه بالعنف على دوائر السلطة في الجنوب آنذاك، ويحاول الآن فرض وصايته أيضاً ، كما لو كان أبناء المحافظات الجنوبية وريثة يتملكها أباً عن جد وله حرية التصرف بها. إن الفاصل الوحيد الذي يميز العمل النضالي الثوري عن سواه هو الأخلاقيات الوطنية، فالشخصية النضالية الثورية تنطلق من مبادئ أخلاقية وإنسانية خالصة، هي من تمنحها جرأة التضحية في سبيل رفاهية وكرامة الشعب.. لكنها عندما تحول البلد إلى مسلخ بشري، وتفتك بأبناء الشعب فهي حينئذ لاتمت بأية صلة لأخلاقيات المناضلين والثوار، بقدر ما يمكن تصنيفها ضمن عصابات المافيا والموساد وغيرها من التنظيمات الدموية التي تزهق الأرواح بدم بارد، على غرار ما فعلته العناصر التشطيرية القابعة في أحضان الجنرالات البريطانية التي كانت تدير سلطة احتلال عدن.