عبر قرون طويلة لم تتوقف الشعوب عن حمل بيارق نضالها الوطني، وتسجيل انتصارات متعاقبة، غير ان جميع القوى ذات التوصيفات النضالية ومنذ عقود تعاقبت إخفاقاتها في إحراز أي نصر يذكر، مثيرة التساؤل حول أسرار عقم التجارب النضالية الحديثة !؟ إن تتبع التجارب النضالية المختلفة في اليمن على سبيل المثال يقودنا إلى حقيقة مشتركة هي أن المحور الأساسي للعمل النضالي كان دائماً هو «الوطن» وأن ثمة قضية واضحة ومفهومة لدى الصغير والكبير تتخذها القوى السياسية أفقاً لنضالها الوطني ، وبالتالي فإن التحرر من الاستعمار البريطاني في الجنوب أو النظام الإمامي في الشمال كان قضية موضع إجماع كل أبناء الشعب اليمني باختلاف مدنهم، ومذاهبهم، وتوجهاتهم الفكرية وميولهم السياسية.. وهو الأمر الذي جعل الانتصار ممكناً واستعدادات التضحية متاحة. وبمراجعة مختلف المصادر التاريخية يتجلى ان أي حديث عن مشروع نضالي سياسي بعد ثورة 26 سبتمبر والجلاء البريطاني في عدن في 30 نوفمبر لم يعد يحظى بأي حماس شعبي، حيث إن «الوطن» لم يعد هو المحور الأساسي للمشاريع النضالية، وإنما باتت هناك صراعات قوى سياسية، وأجندات محلية وخارجية يسعى كل فريق لتمثيلها على الساحة الوطنية، وهو ما كان يفضي دائماً إلى نتائج دامية، وفوضى سياسية، ومزيد من الانتكاس للدولة اليمنية سواء على مستوى شطرها الشمالي أو الجنوبي ! ولم تكن بقية دول العالم بوضع مغاير لليمن، بل ان التجارب النضالية في العراق، ومصر، وسوريا، والجزائر، وليبيا، وغيرها من البلدان نجحت جميعاً في مشاريعها التي كان الوطن موضوعاً وحيداً لها، فيما لم تتوفق كل المشاريع التالية لذلك لكونها اتخذت أطراً حزبية أو مناطقية، أو فئوية تتحدث باسم الوطن غير أن الجميع يعلم انها ليست كذلك، وتحمل برامج محددة.. وهو ما يبرر القول بأن المفهوم الحقيقي للنضال انتهى بتحرير الأوطان، وبامتلاك أبناء الشعب إرادتهم الوطنية الحرة. ورغم ان التاريخ غني بالتجارب التي تؤكد هذا المفهوم لكننا نجد أنفسنا اليوم أمام احزاب سياسية يمنية تتلفع بعباءة «النضال» وتنغمس بصخب الشعارات والهتافات التي حملها جيل الخمسينيات والستينيات إبان النضال الوطني الثوري ضد الملكية والاستعمار رغم علمها المسبق ان اليمن لم يعد فيها من تهتف له «برّع ، برّع يااستعمار» !! إن هذه الظاهرة تترجم حالة الانفصام والأزمة النفسية التي تعيشها بعض القوى.. حيث انها تحاول ان تتقمص صور المناضلين الحقيقيين الذين عرفتهم أزمنة الثورة وظلوا خالدين في ذاكرة الجماهير، ولكن لأنها عاجزة تماماً عن محاكاة اخلاقهم الثورية، والإتيان بأفعالهم الشريفة فهي تحاول خلق مناخات «سينمائية» قريبة لظروف تلك الفترة، كالهتاف «برّع برّع يااستعمار» والهرولة في الشوارع، ورجم سيارات وأفراد الشرطة بالحجارة، وتفجير قنبلة هنا أو هناك، ووصف السلطة ب«قوة احتلال».. لكن في النهاية هي وحدها من يحاول مواصلة الاستمتاع بأوهام النضال والبطولة، فيما تكتشف الجماهير انها كانت ترجم مواطناً يمنياً وليس جندياً بريطانياً، وكانت تحرق مكتباً خدمياً يمنياً وليس مقراً للمندوب السامي.. إلخ. إن هذا الوهم هو الذي تمثله الحالة النضالية التي تدعيها بعض القوى السياسية، لذلك نجدها تتهرب من أي استحقاقات انتخابية لأن صناديق الاقتراع تتعاطى مع وجود حقيقي وليس أوهام بطولات نضالية مستنسخة من ذاكرة ما قبل نصف قرن.. وللأسف الشديد ان الكثير من شعوبنا ظلت مخدوعة بسيناريوهات القوى الانتهازية، ولو فقط فكرت بتتبع حياة زعاماتها لاكتشفت انها صفحات سوداء ، وأنها هي التي استهدفها المناضلون الحقيقيون، غير ان الديمقراطية أنقذتها بأقنعة حزبية زائفة.