هل يمكن مواجهة المستقبل بتجاهل الماضي، وهل يكفي الحديث عن فتح صفحة جديدة للاطمئنان إلى أن الحاضر والمستقبل لن يدفعا ثمن ما حصل في الصفحة التي زعمنا أنها طويت؟!.. وإذا كان العالم بأسره قد تحول إلى قرية صغيرة تغطيها المعلومات والصور، فلماذا نتجه نحن نحو التقوقع والانغلاق والتشظي، من منا لا يتذكر خروج علي ناصر محمد من عدن في 31 كانون الثاني يناير من عام 1981م، على دوي الصدامات الدامية بين الزمرة والرفاق في الحزب الاشتراكي، والحديث عن أحداث 86م إنما يأتي نتيجة لما تركته تلك الأحداث من آثار على كل ما شهده اليمن لاحقاً. تلك الأحداث قضت على عبدالفتاح اسماعيل وعلي عنتر وغيرهما من قيادة الحزب والجيش، وما خلفته من جروح داخل المجتمع. إن تلك الأحداث وما سبقتها جعلت الجنوب يلقي بنفسه في حضن الوطن الأم عام 1990م، وخاصة بعدما بات النظام القائم في عدن بلا مظلة فاختار الذهاب إلى صنعاء، لكنه حاول بعد أربعة أعوام العودة إلى عدن ليكلف اليمن ثمناً باهظاً. إنني هنا أستعيد أحداث 86م للتذكير بتلك الأيام المؤلمة التي كانت خسارة لليمن ولليمنيين، ليس ذلك حباً في فتح الجروح وتجديد الذكريات الموجعة وإنما بهدف ان يتعلم الجميع من تلك الأخطاء. وأنا هنا لا أسجل موقفاً بقدر ما أريد أن نستخلص العبر للخروج من الذهنية التي أدت إلى المحطات المؤلمة وهي محطات كثيرة. لقد كان الصراع على السلطة وراء تلك الأحداث الدامية، وكان الإقصاء سيد الموقف منذ 1967م عندما أقصت الجبهة القومية جبهة التحرير، واستمر الإقصاء بعد ذلك حتى يومنا هذا. لقد قتل في أحداث 86م ما يقرب من عشرة آلاف قتيل، وكانت التهمة الموجهة لعلي ناصر محمد حينذاك انه بدأ ينتهج سياسة الانفتاح مع صنعاء والسعودية وسلطنة عمان، واعتبر ذلك خروجاً على خط الثورة وانحرافاً عن الخط الأممي، كما اعتبر الانفتاح على السوق المفتوحة إنما ينعش البرجوازية!!. وفي حقيقة الأمر ان الذين انقلبوا على علي ناصر محمد لم يكونوا يدركون المتغيرات التي تجري من حولهم، فاعتبروا تلك الإجراءات التي قام بها علي ناصر خيانة، وحكم عليه بالإعدام، ثم أصدروا عفواً في 1992م. وقبل ذلك كانت القيادة في عدن قد ربطت موافقتها النهائية على إعلان الوحدة بخروج علي ناصر محمد من اليمن، وكانت مشكلة الرفاق تتحدد بوحدة الحزب والجيش والشعب، وهي نفس المشكلة التي واجهت دولة الوحدة في العام 94م. وكما قلت إن الحديث عن هذه الفترة بهدف الاستفادة ومحاولة عدم الوقوع فيها مرة أخرى، وإحلال ثقافة التسامح التي تقودنا نحو التقدم والوحدة والتطور. علينا أن نعمل جميعاً من أجل ان نتجاوز الرواسب والبقايا التي كانت سابقة على الوحدة، وظلت بعد الوحدة تشكل نوعاً من المواقف المسبقة للحكم على ما هو قائم. إضافة إلى ذلك فنحن بأمس الحاجة للوقوف في وجه أولئك الذين يريدون العودة باليمن إلى الماضي، إلى نوع من السلفية، إلى نوع من الظلامية، يعطل كل محاولاتنا للذهاب نحو المستقبل؛ نحو التقدم والديمقراطية. مطلوب من الجميع ترسيخ الوحدة وذلك عن طريق تبني قضيتين هما: الديمقراطية والتنمية. أما ما يتعلق بالديمقراطية فلابد من تهيئة ثلاثة شروط، الشرط الأول، يتمثل بحشد كل القوى في المجتمع، وكل قوى الشعب اليمني من أجل بناء دولة حديثة، وهذا يحتم علينا أن نضع خطة طويلة المدى. الشرط الثاني، الاستمرار في التعددية الحزبية، والسياسية والإعلامية، فذلك شرط أساسي من شروط التعددية التي تؤدي إلى تداول السلطة. الشرط الثالث، وضع مشروع ثقافي يبدأ من المدرسة وينتهي بالجامعة ويدخل في كل وسائل الإنتاج، وتعلم ثقافة الحداثة والعصرنة. أما التنمية فهي شرط أساسي لتحقيق الديمقراطية والاستقرار السياسي، ومن الأمور البديهية، ان بلداً متخلفاً ينبغي ان يضع أمامه مهمة خطة للتنمية والتطور ويكون للدولة دور أساسي فيها، على أن تشارك مؤسسات المجتمع جميعها. ولابد من وضع ميثاق اقتصادي اجتماعي، تتحمل كل الأطراف أعباء تخلف الماضي وخطة النهوض على كافة فئات المجتمع. وبدون ذلك فإن عملية التنمية ستؤدي إلى استقطابات تكون في نهاية المطاف مصدراً للتدمير بدلاً من أن تكون مصدراً للنمو، وقبل هذا وذاك، آن الأوان لكي تخرج اليمن من زراعة القات، فالقات أصبح مصدراً للتدمير، ولاسيما تدمير القوى البشرية. ولعله ليس سراً مخفياً أن الأزمة الجنوبية الراهنة قد كشفت عن حجم الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب اليمني؛ لذلك نحن مطالبون بمصالحة وطنية، هذه المصالحة تقوم على الحوار؛ لأن غياب الحوار يعني القتال. يكفي البلاد دماراً، ويكفيه دماءً وجراحاً، فالحوار هو المظهر والأسلوب الحضاري للوصول إلى مصالحة وطنية نصل فيها إلى مداواة جراحه مع مرور الوقت، فالقفز على الجراح وتضميدها وهي عفنة معناه تسمم وحدوث غرغرينا تحتاج بعد ذلك إلى البتر. وإذا كان لنا أن نقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية تعيد التوازن وتعيد المحبة والمودة بين أبناء الشعب، تشكل حكومة وحدة وطنية تنفذ دعوة رئيس الجمهورية للحوار خلال السنتين القادمتين ثم تجري انتخابات برلمانية في ظل حكومة وحدة وطنية وفي ظل توازن. وفي حقيقة الأمر فإنه لا يمكن لأية دولة أن تنمو وتتطور وهي في حالة صراع داخلية متواصلة تستنزف مواردها وتحول دون نموها وتمكينها من عناصر العزة والثقة التي بهما نبني وطناً مزدهراً ومواطناً كريم الجاه، عزيز الجانب. علينا أن نستفيد من تجربة الهند التي يوجد في داخلها ما يقرب من ثلاثمائة قومية، وأكثر من ثلاثة آلاف لغة، ومع ذلك استطاعت أن تحافظ على وحدتها في الوقت الذي عجزت جارتها باكستان أن تحافظ على وحدتها. وأصبحت الهند في فترة قصيرة من الدول التي حققت قفزات تنموية وهي مؤهلة لكي تصبح قوة عالمية كبرى اقتصادياً وتكنولوجياً. لقد استطاعت الهند بالديمقراطية أن تصهر وتلغي كل المصالح والاتجاهات في بوتقة واحدة متعايشة مع الجميع، وقادرة على مواجهة التحديات في ظل استقرار ونمو مستمرين.