كان طفلاً مميزاً منذ أيامه المبكرة، ولقد جمع في ذاته خصالاً جعلته موصوفاً حتى إن المروج والمرتفعات الجبلية استغرقته في نوع من التأمل الطفولي المبكر، فقد كان دؤوباً على ملاحظة الفراشات والجراد الطائر، وأنواع أخرى من الطيور والكائنات، وكانت عودته الغسقية إلى مرابع أمه أشبه ما تكون بعودة طفل قرر أن يتنسّك مبكراً وأن يتموضع في مسار المعاني . مرت الأيام تباعاً وبدأ عوده يتبرعم كمخلوق جميل، غير أن عصراً غائماً بالرذاذ جاء مترافقاً مع راكب بغلة وجنديين وصلا لتوهما إلى القرية، ولاحظ الطفل بعينين مندهشتين جملة التصرفات الهمجية لجند «الإمام» الواصلين من اللا مكان، وتابع جدلاً لم يفهم محتواه بين العسكر وأقاربه الذين تحلقوا تباعاً ليعرفوا ما يريده الجند، غير أن الصغير لم يدرك إلا بعد مرور سنوات طويلة أن هؤلاء وصلوا ليفرضوا إتاوات غير قابلة للسداد، واستتباعاً لذلك أخذوه رهينة، وأودعوه حفرة غائرة يسمونها السجن. كانت الحفرة في مكان بعيد من القرية، وكانت واحدة من أصل مجموعة، وكان رغيف «الكدم» وجبة يومية للسجناء تُرمى لهم صباح كل يوم لتكون غذاء ليوم كامل يستمر 24 ساعة ! ، وكانت الحراسة القائمة على هذه السجون البدائية حراساً ينصرفون طوال النهار إلى الانسياب في نوم متقطع، فيما يسهرون ليلاً وهم يتعاطون القات.. كان الصغير مكبلاً بقيود في رجليه كغيره من المودعين في السجن، والذين تراوحت أعمارهم مابين العاشرة وحتى الخمسين عاماً. استمرت متوالية الأنين والجوع القاتل أياماً وليال حتى جاء الفرج في مساء يوم من غفلة الحارس المناوب.. وللحديث صلة..