بقدر ما تمتلك بعض الأسلحة الحربية ذات التكلفة الباهظة من قدرة خارقة على إحداث دمار شامل، فإن أسلحة أخرى لا تكلف ثمناً بالأولى، قد تكون هي الأشد فتكاً، وفي نفس الوقت، الأكثر تجاهلاً من قبل حكومات الدول النامية، التي مازالت ترفض الاقتناع بأن الخراب الذي تلحقه «الإشاعة» في بلدٍ ما قد يفوق القدرة التدميرية لكل المقذوفات التي ألقتها الولاياتالمتحدة على العراق منذ غزوه وحتى اليوم.. فالفتن التي شهدها العراق، مثلاً بعد الغزو أزهقت أرواح ما يقارب المليون مواطن، بينهم أفضل العقول العلمية، والخبرات العسكرية، والثقافية، والفنية.. ولم يكن مصدر هذه الفتن سوى «طابور» من الماهرين في بث الإشاعة، وقد يكون بعضهم خبراء مؤطرين في أجهزة أمنية لدول معادية للعراق، نجحوا ببضع إشاعات في غرس ثقافة الكراهية، وتأجيج الأحقاد في النفوس، والزج بالناس في معترك دموي لم يشهد له التاريخ مثيلاً، شاع فيه الذبح على البطاقة، والانتماءات المذهبية، والقبلية. قوة الإشاعة يمكن إدراكها إذا عرفنا أن «هولاكو» لم يستطع غزو بغداد إلا بعد افشاء الاشاعات حول القوة الخارقة لجيش المغول.. وفي اليمن فإن جيوش المماليك القادمة بحراً لاحتلال اليمن عام 922 هجرية ما لبثت أن اجتاحت البلاد بطولها وعرضها، ونهب كل خيراتها في غضون أسابيع على خلفية الإشاعة التي تفشت حول استخدام جيش المماليك «سحراً شيطانياً» بقتل اليمنيين، في الوقت الذي لم يكن ذلك «السحر» سوى البندقية التي لم يكن اليمنيون قد عرفوها من قبل أو حتى سمعوا باختراعها. التاريخ مليء بالقصص التي تتحدث عن دور الاشاعة في هلاك الشعوب وخراب الأمم، والتي وظفت لها في العهود المتقدمة دوائر خاصة تحت مسمى «الحرب النفسية»، لاتعنى فقط ببث الاشاعات، بل تعنى بالدرجة الأولى بحماية بلدانها من الاشاعات التي تستهدفها سياسياً، أو اقتصادياً، أو ثقافياً، أو أمنياً. خلال الفترة الماضية، كثيراً ما استهدفت الإشاعات الساحة اليمنية، ومعظمها من أوزان ثقيلة، ومحبوكة بمهارة عالية، ومرقت بين الأوساط الشعبية بسرعة متناهية، ذلك أن ارتفاع معدلات الأمية والجهل يعد أهم وسائط نقل الإشاعة، إلى جانب وجود تعددية حزبية، وحريات صحافة، وتطور تقنيات التواصل بمختلف أشكالها، وفي نفس الوقت غياب جهاز رسمي متخصص بمكافحة الاشاعة، ويعمل بآليات عصرية كتلك التي تمتلكها الدول المتقدمة. وألفت إلى أن المسألة هنا ليست أمنية بالمعنى المتداول، وإنما تقترب إلى «الوقائية» فعلى سبيل المثال، يتفشى حالياً في الولاياتالمتحدة وباء انفلونزا الخنازير على نحو مريع جداً، بحيث إن الغالبية العظمى من الحالات المكتشفة خارج أمريكا تبين أنها منقولة من وافدين من أمريكا.. لكن قدرة سلطاتها على السيطرة على انتشار خبر الوباء، وما تقدمه وسائلها الإعلامية من برامج توعوية، منع حدوث فوضى وهلع عام بين الناس، وإرباك في الأنشطة الحياتية؛ بينما قد يتسبب الكشف عن حالة أو حالتين في بلدان أخرى نامية بفوضى عارمة، وهلع شديد وارباك حتى للأجهزة الحكومية بسبب استغلال «الطابور الخامس» المروج للاشاعات في مثل هذه الظروف لخلق مناخ عام مضطرب، يتم استثماره من قبل المعارضين في الضغط على السلطات وتأليب الرأي العام عليها، واظهارها بمظهر الفاشل أو العاجز. من المؤسف، أننا في بلداننا قد لا نجد أحياناً خصوماً خارجيين يروجون الاساءات، ويهولون القلق، ويحرضون على الفوضى، بل نجد قيادات حزبية تتحول إلى مطابخ لصناعة الإشاعة، وتسويقها إلى واجهات الصحف والمواقع الإلكترونية، والمؤسسات الإعلامية المختلفة، ضاربة بذلك عرض الحائط كل قيم العمل السياسي الذي كان ينبغي أن تتحلى بها من موقعها المسئول كزعامات سياسية تترفع عن الإضرار بالوطن، وتقدر جيداً خطورة الإشاعات على أمن واستقرار البلد ووحدة الصف الوطني لأبنائه. لا أعتقد أننا اليوم بحاجة لمن يخبرنا بخطورة التحديات والمؤامرات التي تحاك ضد اليمن، فالكل يعرف تفاصيل ما يحدث، لكننا بحاجة إلى أن نتوخى الحذر، ونتعلم التمحيص والتدقيق في كل ما يقال عبر المنابر، ويكتب في وسائل الإعلام المختلفة، وما يتم تداوله في الشارع، أو سماعه من الفضائيات، والتأمل فيه ملياً قبل نقله للآخرين لنتأكد من صحته، ونتحقق من جدواه، وغاياته، فرب كلمة نغفل خطورتها تتسبب بفتنة، أو تقود إلى هلاك بعضنا. يجب أن نتعلم بأننا جميعاً مسئولون عن مكافحة الاشاعة، ليس بموجب الدستور، أو بقرار رئاسي، بل لأن الفتن لا تفرق بين أسود أوأبيض، ولا صغير أو كبير، ولا رجل أو امرأة، فهي تصيب بضررها الجميع، وتهلك من غير تفريق وبوسعها اقتحام بيوتنا، والنيل من أهلنا وأبنائنا، رغماً عن إرادتنا.. لذلك نحن مسئولون أمام الله لدرء الخطر عنهم، وإماطة الأذى عن طريق المسلمين.