يُطلق مصطلح «الطابور الخامس» على مروجي الإشاعة المنظمة ، وجاء تداوله مرافقاً للحروب الكبيرة، ويقال إن «هولاكو» أول من قهر جيشاً بالإشاعة قبل السيف، إذ أنه جند مئات الرجال ليشيعوا في بغداد أساطير خارقة عن جبروت المغول ووحشيتهم في القتال، حتى إذا ما استفحل الأثر دخل بغداد من غير مقاومة، وصار الجندي المغولي يطرق باب المسلم ثم يطلب من رب الدار إحضار سيفه، وحينذاك يأخذه منه ويقتله به، وكان ذلك عام 656ه. أما في اليمن، فإن جيش المماليك حين هاجم شواطئ عدن عام 922ه، مستخدماً البنادق التي لم يكن بلغ علم اليمنيين اختراعها، فقد وجدهم يرددون أن المماليك يستخدمون «سحراً شيطانياً» في قتل الناس يعني البندقية فبادر حسين الكردي قائد المماليك إلى تجنيد من يشيع القول ذاته في مناطق اليمن الداخلية.. وبهذا فرت الجيوش من أمامه، وشق طريقه بسرعة إلى «المقرانة» عاصمة الدولة الطاهرية فأسقطها ومضى بطريقه حتى دخل صنعاء. ومع أن فكرة الطابور الخامس تطورت، واتخذت طابعاً مؤسسياً في القرن العشرين، وصارت كل دول العالم تهتم بإنشاء ما يسمى ب«دوائر الحرب النفسية» لكن ظلت مهامها محددة على نطاق النشاط العسكري إلى أن ظهرت فلسفات سلطوية تتبنى «الإشاعة» كخيار بيد أجهزة المخابرات لتضليل الرأي العام عن بعض النشاط السياسي للسلطة.. وبات هذا اللون في النصف الثاني من القرن العشرين مثيراً جداً لحماس الأنظمة السياسية في تطوير مهارات أجهزتها عليه، وربما تحول إلى الظاهرة الأبرز لحكومات تلك الفترة بما فيها الحكومات العربية. خلال الأسبوعين الماضيين كانت الإشاعات بمثابة أهم تطور لافت لأنظار المراقبين للساحة اليمنية، فقد تخللتها عدة إشاعات من أوزان مختلفة، وجميعها محبوكة بمهارة عالية، ومرقت بين الأوساط الشعبية بسرعة متناهية وبنصوص تؤكد أن الجهات المروجة تتمتع بقدر كبير من القدرات على صناعة الإشاعة، خلافاً لقدراتها على صناعة المعلومة المفيدة التي من شأنها توعية الناخب، أو الدفع بالناخبين، أو حتى الترويج لقيم الممارسة الديمقراطية.. ويمكن القول إن تلك الإشاعات عكست ما يلي: أولاً: إن جميع الإشاعات لا تخدم مصالح اليمن واليمنيين، بل إنها تتسبب بقلق كبير، وحالة من الانفعال التي قد تقود إلى عنف مدفوع بذلك النوع من التعبئة السلبية للساحة الشعبية. ثانياًً: وجود متابعة إعلامية حريصة على تسويق الإشاعة في الأوساط المجتمعية، والمبالغة في تداولها.. وهو ما يعني أن الإعلام متورط في الانجرار خلف الدوائر الحزبية على عكس ما هو مطلوب منه خاصة في هذه المرحلة من التزام الحياد، وامتصاص الانفعالات، ومساعدة الناخب على بلورة تصور صادق عن برامج المرشحين، ومسئولية المشاركة الانتخابية. ثالثاًً: إن قيادات بعض الأحزاب تحولت إلى مطابخ صناعة الإشاعة وتسويقها إلى واجهات الصحف والمؤسسات الإعلامية المختلفة، ضاربة بذلك عرض الحائط كل قيم العمل السياسي الذي كان ينبغي أن تتحلى به من موقعها المسئول كزعامات سياسية تترفع عن سفاسف الأمور، وتقدر جيداً أهمية الحفاظ على وحدة الصف الوطني، وتلاحم أبنائه من أجل إنجاح التجربة الديمقراطية اليمنية. لا شك أن التصورات السابقة تؤكد أن دور «الطابور الخامس» هو الذي لعبه أولئك المروجون للإشاعات ولم يكن من هدف ورائه سوى زعزعة استقرار الساحة الوطنية، وأمن اليمن وإثارة القلاقل والفتن التي لن تخدم أحداً سوى أعداء اليمن والمتربصين بها سوءاً. تكثيف حرب الإشاعة من قبل الطابور الخامس يدل على أن هناك من استنفد كل أوراق اللعبة السياسية الديمقراطية، ولم يعد قادراً على ملامسة أحلامه السلطوية «المشروعة ديمقراطياً» بعد تنامي جماهيرية المنافس الآخر واتساع قاعدته الشعبية، وربما فهمت تلك القوة مسألة تنافسها الانتخابي على نحو مماثل للتجربة العراقية أو «الجورجية» أو حتى تجربة «هايتي». ويبقى السؤال الأهم: هل تبيح الديمقراطية لأية قوة سياسية حق التحول إلى طابور خامس لبث الإشاعات وإثارة القلاقل!؟ وما حجم تقاطع مثل ذلك النهج مع مواثيق شرف العمل الوطني!؟ لعل ذلك هو ما سيكون بمقدور الرأي العام اليمني وحده الإجابة عليه.