قد لا يعلم كثيرون أنها تعد من بين الأسلحة الأشد فتكاً بالشعوب والأمم، وإن جيوشاً جبارة صمدت طويلاً أمام أقوى تكنولوجيا الحرب، لكنها هزمتها في النهاية «إشاعة». ومن وحي تجاربنا العربية، فإن المغول «التتار» عندما فكروا باجتياح بغداد محوا من رؤوسهم أية مخططات لخوض منازلة مباشرة مع العراقيين، وقرروا أن يغزوها أولاً بالطابور الخامس من مروجي الإشاعات فاستأجروا من العراقيين والعرب أناساً أوكلوا لهم مهمة إشاعة قصص أسطورية عن شجاعة الجندي المغولي وضخامة جسمه، وقوة ساعدية، ووحشية بطشه .. حتى إذا ما انتشرت هذه الأخبار، وتناقلتها المجالس والأسواق كان أهالي بغداد قد هزموا نفسياً قبل الدخول بأية مواجهة .. ويروي المؤرخون أن جيوش المغول عندما غزت بغداد كان الجندي المغولي يطرق الباب فيخرج له صاحب الدار فيطلب منه إحضار سيفه حتى إذا ماجاء به تناوله منه وقتله به ! الإشاعة في زمننا الحاضر أصبحت علم تفرد له المؤسسات العسكرية إدارة خاصة باسم «الحرب النفسية»، ليس مهمتها بث الإشاعات وحسب، بل أيضاً رصد الإشاعات، وتحليلها، وتعقب مصادرهاثتم إعداد الخطط المناسبة لمواجهتها وتفنيدها. الخطأ الذي تقع به بعض الدول هو أن جهازها لرصد الإشاعات قد يكون غير مؤهل كفاية، أو يعاني من ضعف في قيادته المركزية، أو جهل بآليات تنسيق البيانات ومعالجتها، فيحدث ألا تدرك الإشاعة إلا في وقت متأخر، وبعد أن تكون استفحلت في الوسط الشعبي، وبدأت تأتي ثمارها، مما تصعب عملية مواجهتها .. لكن في أحيان أخرى لا يكون الخلل في جهاز الرصد وانما بجهاز تحليل الإشاعة وتقرير سبل مكافحتها وهو ما ستترتب عنه ضلال الجهود لأهدافها ونجاح الإشاعة في خلق الرأي العام الذي تريده. وفي كل الأحوال فإن عامل الزمن مصيري في مكافحة الإشاعة، والخبرات الفنية حاسمة في تقرير مستوى الفاعلية، كما ژژأن الاستعدادات السابقة ونظام العمل تلعب أدواراً رئيسة في تحديد مستقبل المواجهة في الحرب النفسية. وفي اليمن يأتي القلق الرسمي من الإشاعات مبرراً، نظراً لارتفاع مستوى الأمية والجهل التي تعد البيئة الأوفر حظاً لبث الإشاعات، علاوة على أن تقاليد اليمن في «المقيل» تكفل فرصاً أخرى لسهولة إذاعة أي خبر وتناقله في الأوساط الشعبية .. كما أن حريات الصحافة تضاف إلى أسباب القلق حيث أن بعض الصحف لا تلتزم بأخلاق مهنية ولا تحترم ثوابت وطنية وعاجزة من تقدير مسئوليات الحالة التي تروج لها .. وفي جميع الحالات الآنفة ليس بوسع الدولة نشر الوعي بين ليلة وضحاها، ولا إغلاق مقايل القات، ولا التراجع عن حريات الصحافة والتعبير،، وهو ما يجعل مهمة مكافحة الإشاعة معقدة وصعبة إلى درجة كبيرة.إذن تتحول المهمة إلى مسئولية وطنية مناطة بكل المخلصين الشرفاء من حملة الأقلام سواء كانوا صحافيين أم أدباء ، أو معلمين، أو مثقفين بشكل عام إلى جانب السياسيين والعسكريين وغيرهم وبغض النظر عن أية انتماءات حزبية نظراً لكون الإشاعة غالباً ما تستهدف الوطن وليس شخصاً أو حزباً بعينه .. وغالباً ما تستهدف زعزعة الاستقرار الاجتماعي للبلد عبر أكاذيب وتزوير وتضليل للرأي العام، إذ أن الحقائق تفرض نفسها على أرض الواقع وليست بحاجة لمن يسوقها بإشاعات.. كما أن القوى الوطنية المخلصة لا تلجأ إلى أسلوب الإشاعات لتسريب بعض الآراء أو المواقف، والأحداث مادامت تمتلك مؤسسات دستورية تمنحها حق المساءلة والمحاسبة كما هو الحال مع مجلس النواب، وتمتلك صحافة حرة بوسعها طرح مالديها عبرها وتحمل مسئوليته مادامت متأكده منه.إن الشرائح المثقفة الواعية مسئولة على فرض المنطق على أرضية الواقع اليومي وتحكيم العقل في كل مايتم تداوله بين عامة الناس وتفنيد كل قول غير سوي بالحجج والمنطق المقنع لتجنيب بسطاء الناس من الوقوع ضحية الإشاعات والأكاذيب .. وإننا عندما نخص الشرائح المثقفة والواعية بالمسئولية إنما لأنهم قادة الرأي ونخبة المجتمع المتميزة، أولأنهم الأكثر معرفة بما يعنيه غياب الأمن والاستقرار في مجتمع ما.. وما تعنيه الحياة عندما تحكمها الفوضى والشائعات المضللة.