ترويج الإشاعات فن يمتهنه أفراد، وتحترفه أجهزة دول متقدمة، وفي معظم الأحيان دولنا النامية تكون الضحية لأنها وحدها من لم يعترف بعد أن الإشاعة سلاح فتاك، وأخطر من كل أسلحة الدمار الشامل لأنه يستهدف النفوس والإرادات البشرية. ربما تحدثت من قبل بنفس الموضوع، إلا أن الجديد فيه هو أن يحاول البعض أفراد أو أحزاب أوصحف اللجوء إلى هذا السلاح الفتاك بغير إدراك لخطورته خاصة عندما يكون البلد مشغولاً في مواجهة أمنية مع قوى متمردة على سيادة القانون والسلم الاجتماعي. ففي الأيام الماضية - وبالتزامن مع الفتنة في بعض جبال صعدة وجدنا بعض الشخصيات الحزبية والثقافية والإعلامية المحلية تخوض في الأمر من وحي خيالاتها، وأوهامها فتختلق المعارك الدامية، وتملأ السفوح بجثث القتلى ،وتفتح السجون للمعتقلين، وتسرد قصصاً عندما نسمعها يخيل لنا انهم كانوا في وسط غمار المعركة، وقد عادوا لتوهم منها بينما هم يمكثون بيننا في صنعاء، ويتكنون في المقايل لساعات طويلة، وفي ساعة الكيف يأتيهم الهام كتابة القصص البوليسية! وهنا ألفت الانتباه إلى أن سرد الإشاعات وترويجها في الظروف الاعتيادية في الماضي لم يكن أمراً يستحق الحديث عنه.. وكنا نراه جزءاً من مناكفات الانفعالات الحزبية ليس إلا ! لكنه اليوم لن يكون كذلك لأن العالم كله واقف على كف عفريت، ولأن اليمن في ظرف استثنائي لا يحتمل ترويج أدنى إشاعة مهما كانت الغاية منها، أو حسن النوايا في اطلاقها رغم عدم جواز افتراض حسن النوايا في الكذب. كما أن الظرف لا يحتمل تصفية حسابات شخصية أو فئوية، أو حزبية بقدر ما يستدعي تلاحم الجهود الوطنية في مواجهة التحدي القائم الذي تذهب جراءه أرواح اليمنيين .. فالترويج للمبالغات والأكاذيب يعني قذف مزيد من الحطب على نيران الفتنة .. ويعني سقوط المزيد من الضحايا .. ويعني ذهاب موارد الدولة المخصصة للتنمية والخدمات العامة إلى اتون محرقة الحرب .. ويعني تعطيل عقارب الساعة اليمنية أسابيع أو شهوراً أخرى عما هي عليه عقارب بقية العالم .. وكل هذا لمصلحة من !؟ لكن أيضاً لا بد من إدراك ان الدول في زمن التحديات الخطيرة ينبغي ان تلجأ إلى قوانين وإجراءات استثنائية تحمي ساحتها الداخلية من براثن الطابور الخامس، ولا تسمح لهم بطعن ظهور حراس الوطن المدافعين عن أمنه وسيادة القانون، فيتحولون إلى جبهة حرب مفتوحة وواسعة النطاق لا أحد يصمد أمامها، لأن الألسن التي تتلقف الاشاعات وتبدأ بتداولها في معظم الأحيان هم من بسطاء الناس الذين يصعب عليهم اكتشاف الحقيقة من الافتراء. ومادامت الحكومة اليمنية تواجه التمرد طبقاً لتخويل مجلس النواب ووصايا مجلس الشورى ومجلس القضاء الأعلى، فان أجهزتها الدفاعية تواجه التمرد باسم الشعب اليمني، وليس باسم السلطة أو نظام الحكم وبالتالي تقع عليها مسئولية التعامل مع الاشاعات بحزم مختلف عما هو حاصل اليوم.. ففي أكثر من مرة كانت الجهات الرسمية تكتفي بنشر بيانات أو تصريحات نفي للاشاعة عبر وسائلها الإعلامية الرسمية، وحتى مع تكرار مصدر الاشاعة لمحاولته تواجه بنفي آخر .. مع أن من يتمعن ببعض الاشاعات يكتشف ان الهدف الرئيس منها هو تأليب الرأي العام على أجهزة الدولة الأمنية والدفاعية ومثل هذا يفهم لدى كل المراقبين والمحللين الاستراتيجيين بأنه تحريض للاعتداء على هذه الأجهزة وهو جريمة يوجد في القانون اليمني ما يردعها ويعاقب عليها، فلماذا إذن يتم التفريط بحقوق دستورية من شأنها أن توفر مزيداً من الحماية للأمن والاستقرار اليمني !؟ لو نظرنا إلى تجارب بعض دول العالم لوجدنا ان الولاياتالمتحدة عندما قادت التحالف العسكري ضد العراق عامي 1991م و2003م أصدرت بياناً يحرم على وسائل الإعلام بث أي خبر من غير العودة إلى قيادة التحالف .. وقد التزمت وسائل الإعلام الأمريكية بالتحريم رغم انها مصنفة من أكثر وسائل الإعلام العالمية تحرراً .. إلا أن تفسير التزامها بالتحريم عائد إلى أمرين أولهما وعي القائمين عليها بمسئولياتهم الوطنية الأمريكية «باعتبارهم يفهمون ان غزو العراق تصرف مشروع لحماية أمنهم» وثانيهما لاحساسهم بخطر الممارسات الطائشة على أنفسهم لأن أي خطأ قد يترتب عنه توسيع دائرة المواجهة التي لن تستثني أحداً أو تميز بين فئات المجتمع حين تلقي بحمم الدمار على بلد ما ! لا أعتقد أننا استثناء من الحالة التي تمارسها مختلف دول العالم في زمن التحديات الخطيرة ..ولا أعتقد ان بإمكان أحد ان يعتبر محاسبة مروجي الفتن والقلاقل انتهاكاً لحقوق وحريات تلك الفئة مادام الشعب خول الدولة بالدفاع عن أمنه وسلامة أبنائه واستقرار اليمن .