نصف انحناءة أو كلها تختزل جسده المتكوّم على مقربة من الطريق، وليس على «الدكة» التي تحمل هذا الجسد من شيء يدعو فضول البصر للانتباه سوى التأوّه. في لحظة مأساوية أتكلفُ أعباءها وأنا أمرّ من هناك أجدني وأنا أسبح في نهر المارة قُبيل المغرب أقف على زوبعة ذلك الجسد وهو يهتز من فرط «الكحّة» السعال ورجة الألم. اللحظة هذه لذلك «الشيخ» بائع التمباك المركون على «الدكة» وهو يحمل مأساة الإنسان الذي يعيش كل يوم لوناً من ألوان السكرات التي يسير الموت عند نهايتها متململاً. المشهد يحكي تاريخاً من الانقياد لظلم تلك الشجرة اليابسة التي أرادت فوق كونها سلعة الحانوت الوحيدة أن تكون شراب الصبوح وهواء المكان وموسيقى الليل، بل والمقعد الذهبي الذي يزداد شبهاً ب «الدكة» عندما يظل «التُمباك» مصندقاً كما أخرجه العمال في مزارع «التمباك» البلدي. ما الذي تبقى من تلك الروح التي تحاول نوبات «الكحة» المزمنة أن تنتزعها مع كل تأجّج؟! الجسد المريض يبدو متشبثاً بباب الحانوت بما يبدو وكأنه إصرار على المقاومة أو تحدي الفناء ويكاد لا حراك بعد نازلة «الكحة» إلاَّ من عينين تنثران الحزن وسط زحمة الحياة في شارع يكتظ بالمارة. قلت: إن بقايا تلك الروح هي نخالة ذلك الموت الذي ترعرع في صدر هذا المُسنّ مذ كان شاباً وأما اليوم فهما يشيخان معاً، ولا يتخلّف أحدهما عن الآخر، فلا هي زلزلة «السُعال» تطفئ طبقات التأوّه، ولا هو التأوّه قادراً على إخماد نار «التبغ» في الداخل.. وهكذا فإن دورة الصراع اللامتناهي على مسرح الضعف والكهولة المفتوح. إنها صفحة لا تنطوي عن جسد يسعى لسحب خيط الحياة من شبكة الأدواء التي ينسجها «الموت» وهل ثمة حساب للتهدئة مع شيخوخة تشدّها حركة الحياة لأن ترمي بثقلها كل يوم إلى لجة الشارع بين سكون واهتزاز، حين يكون «تبغ» الجسد يزداد طيشاً إذا حضر شيء من تبغ الحانوت!! تلك هي حسرة الأنفاس التي أغوتها شجرة الموت وحسرة العين التي قدرُها أن تعيش التنافس المحموم بين الذبول والجحوظ في لحظة واحدة. وحسرة الأحلام التي رحلت يوماً مع الدخان ولم تعد.. وحسرة الجسد المسافرة في صمت المآتم ناخرة فيه الشهقات، أعني أهزوجة الموت المفضلة لإرعاب جيل «المدخنين». هل شيء يحدث غير ذلك؟!