منطق العصر اقتضى أن تعرض الحقائق نفسها، حتى أصبح المواطن البسيط مثل غيره من حملة السياسة يجيد التحليل والتركيب ويحسن قراءة الأحداث، وربما وصف شكل المستقبل بحدْس مصيب لقضية يعايشها في ضوء نبض الشارع وليس في ضوء ما يتلقاه مكتوباً أو مسموعاً من جهة إعلامية معينة.فحقائق التاريخ أكدت أن الوحدة اليمنية لم تكن مطلباً شعبياً فحسب، بل كانت إلى ذلك مطلباً سياسياً أخلص له النظام في شمال الوطن «آنذاك»، في حين ارتمى في أحضانه النظام في جنوب الوطن هروباً من التوقيت المنتظم الذي أحس «الرفاق» أنه سيعدّ دقائقه الأخيرة لمذبحة جديدة مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين وما ستأتي به هذه المذبحة حتى وإن لم تبلغ مداها الكامل من مهلكات جديدة تضاعف حجم الفشل، هذا مع أن ذلك الارتماء كان نتيجة قراءة خاطئة للشارع اليمني ليس إلا. وفعلاً، فقد كان حدث الوحدة، وكانت ملاذاً آمناً لهم ولكل من أحب ممارسة السياسة باطمئنان وبدون أن يرتسم في عينيه يوماً شكل مقصلة أو حبل مشنقة. جاءت الوحدة لتبدأ صناعة الحياة، فقالت لكل من أضر بالوطن «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وأكدت أن الوطن وطن الجميع يحتاج لكل السواعد والعقول والجهود وبدون استثناء، وكلُّ سيعمل بما يمليه عليه ضميره وحبه لوطنه، والأيام كفيلة بكشف الخبث وزلزلة الأرض تحت أقدام الأشقياء ومدمني عقوق الوطن. ولم تطل الأيام.. حتى خرج «الفُجّار» ليهتكوا حرمة الوحدة، لكن الجموع التي عصرتها مآسي التشطير هي التي عرفت قيمة الوحدة وأعانتها إرادة السماء، فكانت قرابة الشهرين زمناً كافياً لتحصين معاقلها وتثبيت دعائمها. ولايخفى على جميع أبناء الوطن أن الوحدة حملت أعباء التشطير كلها، ولاسيما مشاكله الاقتصادية وأبحرت بنا عباب الأزمات، بحثاً عن مرفأ النهوض، والحفاظ على عزة وكرامة الانسان اليمني توافقاً مع عراقة ماضيه وشموخ تاريخه. وإن الشرفاء والأوفياء ومحبي أوطانهم لايقيسون نجاح وحدتهم بمقدار عطائها المادي ومكاسبها النفعية، فحسبها أن تكون الأساس المتين الذي سيقيم عليه إنسان اليوم وإنسان الغد صروح المجد والتنوير، ومعاقل الثبات وجذور البقاء أمام كل الجوائح والأزمات. والجموع اليمنية تدرك كل ذلك، بالرغم من علمنا نحن أبناء تعز وصنعاء وإب وذمار والحديدة أن ثمة أزمات كُتب لنا نحن أن نعايشها أكثر من غيرنا، مثل مشكلة المساكن والزيادة السكانية التي تعاظم تأثيرها فينا على مستوى الصحة والوظيفة العامة ومستوى الدخل، وبالرغم من علمنا أن جهود التنمية والاستثمار.. تغافلت عنا واتجهت للعمل بما يشعر مواطن لحجوعدن وأبين والمكلا بمستوى التحول والرقي الذي حققته له دولة الوحدة، فنحن نحس بأن دولة الوحدة جعلت هذا الهدف نصب عينيها، وحاولت بكل مااستطاعت ألاّ تترك ثغرة لحاقد يريد أن يتطاول على منجز الوحدة أو ينال من مكانتها، فقد جدّت في وضع تسوية عادلة لقضية المتقاعدين والمنقطعين ثم انطلقت لحل مشكلة الأراضي، حتى صرنا نلمس أن شعارات الانفصاليين اليوم لم يعد فيها ما يحمل قضية أو مطالب حقوقية غير تهويمات تخفي وراءها حب الانفراد والسيطرة على المحافظات الجنوبية لبدء عهد سلاطيني جديد، ومن ثم الاستئثار بما يرونه لقمة سائغة صنعتها لهم دولة الوحدة. ونحن نعلم جيداً أن جهود الحكومة تركزت في تهيئة بيئة استثمارية واعدة تحقق مستقبلاً متطوراً وأن عدنولحج وأبين والمكلا وشبوة موطن هذا التركيز الأول، فلماذا لا يغار أبناء تعز - والماء لايدخل مساكنهم إلا كل أربعين يوماً - ممن هم أحسن حالاً في المحافظات الأخرى في شمال الوطن أو جنوبه.. ومثل ذلك في قضية انحسار الحركة التجارية، وركود ميناء المخا ؟! ولماذا لا يغار أبناء الحديدة من هجرة رؤوس الأموال عن مدينتهم، ومن التراجع المتواصل في نشاط مينائها.. ولماذا لا يقولون إن الوحدة أخذت منهم الكثير وأعطت لغيرهم وشواهد التنمية والاستثمار عند غيرهم تثبت ذلك ؟! لماذا مع كل هذا لا يناصبون الوحدة العداء ؟! إنهم - بلا شك - يعقدون مقارنات دقيقة حتى على مستوى أداء شرطي المرور هنا، وأدائه هناك، أو تعامل الأفراد في أي وحدة أمنية هنا أو هناك، لكنهم وكل الشعب اليمني لايرون ذلك غبناً ينبغي أن يدعو للعمل ضد الوطن أو الدعوة لتفكيك عرى وحدته. القضية إذن أن دعاة الانفصال قد قدمت لهم الوحدة وجبة دسمه فيها خبز الشعير لكنهم يذمّونه !! فبعد أن نجحت الوحدة في حقن دماء من بقي منهم، وأنهت مسلسل التصفيات ثم تفرغت للبناء انقلبوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وماكانوا ليخرجوا في هذا الوقت لولا أنهم أدركوا أن ثمار الوحدة قد أينعت، فهبوا ليقطفوها لأنفسهم، وما علموا أن الشعب لهم بالمرصاد. وجرائمهم الأخيرة التي أظهرت هويتهم الإجرامية وعشقهم للدماء كشفت حجم أهدافهم ومستوى إصرارهم على تحقيقها تحت صهوة المذابح التي حنّت أنفسهم لها من جديد. ولكن في الأخير والحزن يعتصر قلوبنا حزناً على دماء إخواننا التي سفكت بغير ما ذنب.. إنا لمنتظرون دين الاقتصاص لهم، وليعلم القتلة أنه مهما طال الزمان وتسيّد موقف «الحكمة» الذي تلتزمه الحكومة والتي يبدو أن كل ماحدث لم يستغضبها حتى الآن، فإن الأخذ بثأرهم فرض على الشعب كله ودين مستحق.