يقولون في الأثر: «الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه»، وما تواجهه اليمن اليوم من تحديات خطيرة لن تبلغ حدّ «قصم الظهر» بإذن الله تعالى، إلاّ أنها أيضاً لن تضيف لقوته شيئاً ما لم نعد التمحيص بكل تجاربنا الماضية، ونراجع مفردات خياراتنا الوطنية، بحثاً عن إجابة لسؤالنا: لماذا حدث كل هذا..!؟. إن من أعظم الأخطاء التي قد نرتكبها في هذه المرحلة هو أن نجامل بعضنا البعض في القضايا الوطنية، ونتعاطى مع كل شيء بالشعارات الحماسية، فنغرق الجميع في عالم من الوهم، ما يلبث أن يتكشف أمامنا وقد أصبحت مشاكلنا أكثر تعقيداً - كما هو حال كل ما نقاسيه اليوم - وبدلاً من بلورة موقف حازم إزاءها، ننزوي نجتر الشكوى والتذمر، ونتهافت على تراشق الاتهامات والتنكيل ببعضنا، محاولين القذف بكامل المسئولية على عاتق طرف واحد، كما لو أننا لم نتشاطر حياتنا من قبل بين أحضان وطن واحد. لماذا نكابر في مثل هذه الظروف الحرجة التي فجرت قلق مشارق الأرض ومغاربها دون أن تهز شعرة من رؤوس ذلك القطاع الواسع الذي أنتجته التجربة الديمقراطية من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، دست جميعها رؤوسها في الرمال منذ بداية حرب صعدة، ولم تخرجها إلا للنياح على ضابط خائن غدر بجنوده وسلمهم لعناصر الإرهاب لتقتلهم، بينما هي تستنكر أن يحال للمحاكمة - كما لو أن الجنود المغدورين لم يكونوا بشراً ولا من أبناء اليمن..! لقد آن الأوان لنعيد تقييم التجربة الديمقراطية من واقع مخرجاتها، ونستجمع شجاعتنا الأدبية ونعترف بكل جرأة بأنها أمعنت في سلخ المجتمع اليمني من هويته الوطنية، وأعادت توزيعه إلى هويات حزبية وسياسية، ومناطقية، رغم فداحة التهديدات التي يتعرض لها اليمن، عجزت عن التوحد مع الوطن، أو إظهار أدنى قدر من مشاعر الانتماء إليه والولاء لتربته، لأنها منحت ولاءها لأحزابها ومصالحها الشخصية، وباتت تعتبر الوطن ليس إلاّ حقائب وزارية ومناصب، ومن لم يكن في الحكم لا شأن له به لا من قريب ولا من بعيد. دعونا ننظر إلى الواقع الذي أنتجته الديمقراطية، ونتفحص وجوه أولئك المتحدثين باسم الشعب، والجاعلين أنفسهم أوصياء رغماً عن أنف أبنائه.. ثم نتساءل: أين علماء اليمن، ومثقفيها، ومناضليها، ومفكريها، وأعلامها بين من أنتجتهم الديمقراطية؟ وكيف أصبح التجار الجشعون والملطخة أيديهم بالدماء، والانتهازيون، والدجالون، والجهلاء هم الأوصياء..!؟. دعونا ننظر إلى الواقع الذي أنتجته الحريات، لنسمع أبواق الفتنة وهي تصرخ في الشوارع، ونرى بأعيننا معاول الكراهية وهي تخرب كل ما تعاقبت الأجيال على بنائه.. ونقرأ السفاهات في كل مكان وهي تقذف بالكبير قبل الصغير، وتخوض في الأعراض، وتشوّه صورة كل ما كان رصيد فخرنا واعتزازنا، حتى صارت كلمة «مناضل» وصفاً لمن هو أشد بذاءة من سواه. دعونا نخلص المشورة والنصح لبعضنا ونعترف أن كل العنف الذي شهدته اليمن تنامى تحت مظلة الديمقراطية والحريات.. وحتى الفساد المالي والإداري وجد في الحريات منابر إعلامية تلمع صورته، وتجعل منه رمزاً وطنياً، وتدس أصابعها بأعين كل من يجرؤ على التعرض لفساده ولم ينبس ببنت شفه، وتقلب المجرم نزيهاً، والشريف فاسداً حتى اختلط الحابل بالنابل.. إذن ما دامت الديمقراطية سلبت المجتمع حتى عفافه بجانب أمنه واستقراره، فما الجدوى من التشبث بها؟ لماذا لا نفكر ببدائل أجدر منها على إعادة الأمن والسلام للمجتمع؟ فهل يستعصي ذلك على الحكمة اليمانية..؟!