عندما يتعمق الولاء الوطني في النفوس فإن مسئولية الأفراد تصبح عالية تجاه دولتهم ومجتمعهم، باعتبار أن من ولاؤه لوطنه قوي فإن طاقته في البذل والعطاء تكون جبارة، وتكون لديه مقاومة إيجابية وفاعلة في مواجهة السلبيات المعيقة للتطور والتقدم.فالوطني الحقيقي هو من يجعل هموم ومشاكل وطنه نصب عينيه ويعمل بكل ما لديه من مؤهلات وقدرات من أجل مساعدة وطنه حتي يتمكن من تجاوز مشاكله، كما أن الوطني الحقيقي لديه حالة من القلق الدائم لمواجهة التخلف، ولديه شعور قوي وعميق وصادق بضرورة العمل من أجل عزة وطنه والدفاع عنه والتضحية من أجله بالمال والنفس. وتؤكد تجارب التاريخ أنه لا يمكن لأي وطن أن يتقدم ويتطور ويبني دولته القوية ومجتمعه المتماسك القادر على العطاء وصناعة الابداع ما لم يكن الولاء الوطني هو القيمة العليا والسائدة وهي المتحكمة في نفوس أبنائه، فالولاء الوطني هو الطاقة العبقرية والعظيمة التي تجعل المجتمعات قادرة على تحقيق غاياتها، والولاء الوطني يصنع أمجاد الوطن لأنه يجعل من هموم الوطن مسألة تؤرق عقل الفرد وروحه، فيعمل الفرد بكل طاقته لتجاوز الواقع السيئ، ويجعل من الفرد والمجتمع في حالة حراك دائم بحثاً عن الجديد والإبداع. ولا تناقض بين الولاء الوطني والدين، بل إن أعلى مقامات الجهاد هي حب الوطن والإخلاص له وبذل كل الجهود من أجل تقدمه ورقيه، وتأتي أهمية الدين بأنه قوة روحية تمدّ الإنسان بالرغبة في الحياة من أجل تطوير الذات وتحويل المؤهلات إلى طاقة نافعة وإيجابية من أجل الوطن، فالدين يخلق الضمير الحي والمؤمن بضرورة خدمة الوطن، وأيضاً يجعل الإنسان قادراً على تحمل المسئولية، وعندما يوالي المرء وطنه فإنه يحقق عبودية خالصة لله لأن الوطن هو الوعاء الذي يتجسد الدين فيه. ولأن حب الوطن من الايمان، فإن إيمان المرء بدون حب الوطن والاخلاص له والتضحية من أجله يكون إيماناً ناقصاً، ولا يكتمل إيمان المرء ما لم يحب وطنه، وحب الوطن مسألة طبيعية وفطرة فطر الله الانسان عليها، وعندما يدافع المرء عن وطنه فإنه يدافع عن القيم الجامعة التي اتفق عليها الناس ولأن الوحدة والجمهورية والحرية والامن والسلام والعدالة والمساواة من الفروض الاساسية التي أسست لها الشريعة لذا فإن العمل من أجل تحقيقها والدفاع عنها واجب على كل مواطن، وتعبير عن الولاء للوطن. وهنا لابد أن نشير إلى مسألة في غاية الأهمية وهي أن كل القيم الانسانية النبيلة والقيم الدينية العظيمة لا يمكن أن تحقق ما لم يكن لدينا أرض نعيش عليها وفيها سلطة ناظمة للجماعة التي تعيش في هذه الأرض، وحتى يتحقق الأمن والسلام لابد أن يكون ولاء الناس لهذه السلطة لذا فإن الولاء للسلطة المتفق عليها واجب وفرض لتحقيق قيم الدين، بمعنى أن طاعة القانون والنظام الذي تحدده السلطات الحاكمة يعبر عن اخلاص المرء لوطنه، فحب الوطن والولاء الوطني للدولة وللمجتمع والقيم التي تؤسس للعيش المشترك يعتبر فرض عين على كل فرد في المجتمع. وحب الوطن والدفاع عنه يعني حب الدين والدفاع عنه، والإنسان الوطني يستفيد من كل شيء ينفع وطنه ويساعد على تقدمه، لذا فإن الاستفادة من تجارب الآخرين والأخذ بالحكمة التي انتجتها عقول الآخرين يعبر عن إخلاص وحب للوطن وللدين، كما ان اتباع القيم الدينية ضرورة ملحة لتحقيق مفاهيم الاخاء والحب والاحترام المتبادل فالدين يساعد على تربية الناس على السلوك الفاضل والاخلاق الحميدة والتي تشكل القوة الداعمة للتآلف والتعاون وتعزيز السلوك الحضاري القادر على الحفاظ على المجتمع المتماسك والمتآزر والدولة القوية. ولكي تكتمل الصورة لابد أن نتناول الاضرار التي تنتج عن ضعف الولاء الوطني، فالفرد الانتهازي القذر مثلاً عادة ما يعاني من خمول في ولائه الوطني، وهذا الشخص أناني لا يحب إلا نفسه، ويعبد هواه ويقدس ذاته إلى درجة أنه يبدأ يحقد ويكره الآخرين، ولا مانع لديه من تدمير وطنه عندما يخسر بعض مصالحه، وهذا الفرد عندما يجد أن مصالحه لدى أعداء الوطن فإنه يبيع ضميره ولا يهمه أن يقتل الناس وأن تسفك الدماء، لأن مصالحه هي العليا وما عداها باطل. إن الفرد الذي ولاؤه الوطني ضعيف عادة ما يكون إحساسه بمجتمعه ووطنه سلبياً، لذا فإنه يحارب وطنه ويثير النعرات والعصبيات ليخدم قوته ولا مانع لديه من وصم مجتمعه ووطنه ودولته بكل عيب ونقده يكون تدميرياً لا بناء بل ويجرم كل فعل يحمي القيم العليا للوطن ويعتبر من يمثلها أعداءه ويمارس الكذب والدجل لتشويه صورة وطنه وصورة قياداته، فالفرد الأناني لا يمكنه أن يضحي بل يقاتل من أجل ذاته. وهناك أفراد ولاؤهم الوطني بالقول واضح لكن افعالهم متناقضة مع قولهم، لذا تجده عندما ينتقد فإن الظاهر أنه خائف على مصالح الوطن والحقيقة انه يحاول أن يتزين بالوطنية ليحقق مآربه الشخصية، لأنه على مستوى الواقع يبيح كل ما يتناقض مع مصالح الوطن من أجل تحقيق طموحاته الذاتية، فهو يمارس الفساد والتخريب في المجتمع والدولة، ولا أهمية لديه أن يكون أداة للأجنبي لتدمير الوطن الذي يعيش فيه، والفرد الذي ولاؤه الوطني ضعيف عادة ما يكون غير ملتزم بهويته وتاريخه، فذاته وهواه هما الهوية والتاريخ والوطن. ونؤكد هنا أن الوطني الحقيقي الذي يقدم مصالح مجتمعه ووطنه على مصالحه الأنانية ويكون أكثر ثقة بنفسه، ولديه شعور عظيم بالمسئولية تجاه الآخرين ومتعاون معهم، وعادة ما تكون حركته ملتزمة بالمشروع الوطني لدولته ويعمل على تطويره وتحقيق أهدافه، وهذا لا يعني أن الفرد يتخلى عن إيمانه بذاته ومصالحه، ولكنه يدافع عن مصالحه المادية والمعنوية بما يخدم مصالح الوطن وفي حالة التناقض فإنه يغلب القيمة الوطنية على ذاته. ولا يختلف اثنان أن الولاء الوطني هو المقدمة الأولية لبناء الحقوق، وبدونه فإن الأفراد لن يناضلوا من أجل حقوقهم، وبدونه أيضاً يصبحون عاجزين عن تعزيز القيم النافعة للناس وتحقيقها على أرض الواقع، وكل القيم النافعة للناس بدون ولاء وطني تصبح قيماً هزيلة وقابلة للانتهاك والضياع، فالولاء الوطني هو من يصنع الحقوق وكل ما ينفع الناس، وأحب الناس إلى الله هو انفعهم. ولا مراء في القول إن الولاء الوطني هو الوجه الحقيقي لفكرة الحقوق، وواجبات المرء هي في جوهرها تعبير عن الولاء للوطن، مع التأكيد ان مفهوم الولاء أعمق من فكرة الواجبات، لأن الولاء ابتداءً يخلق الحقوق، ويجعل من الواجبات أولوية لبناء الوطن، فضلاً عن أن الولاء يجعل الفرد قادراً عن قناعة في التضحية عن حقوقه من أجل منفعة الوطن. ومن يتابع شئون الناس لابد أن يجد أن الفرد الذي ولاؤه الوطني قوي فإنه يكون فرداً مستقراً نفسياً لأن الولاء الوطني يرسخ في نفس الفرد الأمان والاستقرار ويحقق له السعادة والرضا عن الذات، ويجعل الفرد أكثر قرباً من الله، بعكس الفرد الذي يكون ولاؤه ناقصاً فإنه يعاني من القلق، ويحتقر ذاته إن كان فيها خيراً، أما إن كان غارقاً في حب ذاته، أو مستلباً في هويته وفكره، أو يعاني من تناقضات المرضى النفسانيين، فإنه يجعل من الخيانة ذكاء وعبقرية، وهؤلاء الأفراد هم مدمرو المجتمعات والدول ومخربو حضارات الأمم. ومن مقتضيات الولاء الوطني التضحية وتغليب الواجب والعطاء الدائم من اجل الوطن والجماعة الوطنية، ولكن بعض الأفراد يكون لديه ولاء وطني ولكنه يغلب مصالحه ويبحث دائماً عن حقوقه، وينسى واجباته، بل ويتجاهل مصالح وطنه ومصالح المجتمع وهذا في حقيقة الأمر فاقد للولاء مهما كانت ادعاءاته. وهنا مسألة في غاية الخطورة لابد من الانتباه لها فالبعض قد ينتمي إلى وطنه ولكنه يجعل ولاءه في جماعة معينة ينتمي إليها كالطائفة أو القبيلة أو المنطقة وفي هذه الحالة تتغلب عليه عصبية متخلفة ويبدأ الفرد يعادي الجماعة الوطنية والدولة التي تمثلها من اجل ولائه الضيق، وهذا السلوك الخطير في العادة يدمر العيش المشترك، ويتحدى القيم العظيمة كالوحدة والجمهورية والحرية والعدالة.. الخ وعندما يصبح ولاء الأفراد للجماعات الضيقة ويتبعون النعرات فإن المجتمع يدخل في حالة صراع مع نفسه ويخسر الجميع، وفي حقيقة الأمر الذي يجعل ولاءه للجماعة الضيقة كالقبيلة والمذهب والمنطقة فإنه متخلف وغبي، وأمثال هؤلاء لا ولاء لهم لأوطانهم، وهم في الغالب مستلبو الإرادة ووعيهم الوطني منعدم مهما أدعوا. ومما لا شك فيه أن الولاء الوطني عندما يكون واضحاً ومتعمقاً في نفوس الأفراد، فإنه يجعل منهم قوة قاهرة ضد أعداء الوطن، وطاقة جبارة في خدمته حتى في الحالات التي قد تكون فيها حقوقهم ناقصة، وهؤلاء نضالهم من اجل الحقوق لا يأتي من بوابة أنانية، وإنما باعتبار الحقوق ضرورة حتمية لتقدم المجتمع. وهناك من الأفراد من يضحي بحقوقه من أجل بناء الوطن وهؤلاء هم القيادات الوطنية التي تصنع الأمجاد وهؤلاء تكون حياتهم نضالاً دائماً من اجل الوطن وأبنائه، وعادة ما يندمجون مع المصالح الوطنية ليصبح تحققها هي أمنيتهم ومنتهى طموحاتهم، وهؤلاء هم ورثة الأنبياء وتتجسد فيهم أعلى القيم الدينية لأنهم يؤثرون مصالح الناس على مصالحهم، وهؤلاء هم العباقرة الذين يصنعون التاريخ بولائهم الوطني الخالص. وأشير هنا إلى أنني قرأت لخالص جلبي في أحد كتبه ما فحواه أن الأمم التي يركز أفرادها على الحقوق دون القيام بالواجبات أمم متخلفة، ووضعنا العربي أقرب إلى هذه الحالة، والأمم التي تطالب بالحقوق ولا تتنازل عنها وتقوم بواجباتها في نفس الوقت على أكمل وجه هي أمم متقدمة، وهذا ينطبق على الأمم في الغرب واليابان، أما الأمم التي يكون هم أفرادها هو القيام بالواجبات ولها الأولوية حتى وإن كانت حقوقهم فيها نقص بمعنى أنها تقوم بواجباتها دون أن تكون مهمومة بالحقوق، فإنها أمم راقية وهي أكثر الأمم قدرة على صناعة التطور والتقدم. الأمم الراقية هي التي يكون قلوب أفرادها مملوءة بالحب الانساني ولديهم قوة إيجابية تدفعهم للتضحية والبذل والعطاء، ومثل هذه الأمم لابد أن يكون التسامح لغتها وحب الآخر روحها ونفع الناس وخدمتهم طريقاً لتوليد السعادة في نفوس أبنائها، وهذه الأمة هي حلمنا العربي فالإسلام دين منفتح متسامح جعل من التضحية وخدمة الناس قيماً عليا تعبر عن نفس ملهمة سعادتها في سعادة الآخرين، وقد جعل الإسلام ذروة سنامه في الجهاد، وأصل الولاء الوطني هو الجهاد الأكبر لأنه يبني الحياة ويعمرها والسلام عنوانه، كما أن العمل بإخلاص وإتقان وإبداع وبأخلاقية متنورة بالقيم المؤسسة للتسامح والاخاء ومنفعة الآخرين من أنواع الجهاد الأكبر، والولاء للوطن مقدمة ضرورية لتحقيق الجهاد الأكبر.