لولا أن القرآن الكريم قص علينا ذكر ملكة سبأ، وما كانت عليه من قوة وحكمة، لما كنا ذكرناها يوماً، وربما لأنكرنا كل ما يقال بحقها.. فثمة كبرياء ذكوري لدى مجتمعاتنا يحول دون تفضيل المرأة بشيء من العلم أو الفعل حتى في الزمن الذي نفرد فيه فحولتنا التحررية على واجهات الصحف وفوق المنابر السياسية. في بريطانيا جرى تقليد سنوي أن يقوم أحد المتاحف بتنظيم معرض بعنوان «ملكة سبأ» يدعو إليه كبار السياسيين والشخصيات الدبلوماسية، والمؤسسات الثقافية.. ويتم على هامش المعرض عرض أفلام وثائقية لسيرة الملكة بلقيس وحكايتها مع نبي الله سليمان «عليه السلام» وتعقد ندوة خاصة لباحثين مشهورين يناقشون فيها بعض المفردات التاريخية ذات العلاقة.. وعادة يستمر المعرض شهراً كاملاً. خلال العامين الماضيين لم يقتصر الاحتفاء بملكة سبأ على البريطانيين بل انضمت كندا والمانيا إلى هذا التقليد، وأصبح كل منهما يقيم معارض وندوات حول الملكة بلقيس.. رغم أن ذكرها ورد في التوراة وليس في الانجيل، وهوالأمر الذي ظل موضع دهشة أن ينبهر بها النصارى. في رمضان المنصرم عرضت قناة دبي الفضائية مسلسلاً باسم «بلقيس» يحكي قصة هذه الملكة العظيمة، وكيف وصلت إلى الحكم، وبقية التفاصيل.. غير أن القائمين على انتاج المسلسل لم يكونوا موفقين في التعاطي مع أحداث الحقبة، حتى ظن بعض من كانوا يتابعوه أنهم يشاهدون مسلسلاً حول قصة أخرى غير قصة ملكة سبأ. أما في اليمن - وطن هذه الملكة العظيمة التي مثلت أحد أهم أركان تراثه الحضاري - فيمكننا القول «رحم الله ملكة سبأ» فلا أحد يذكرها سوى بعض السياسيين عندما يتناكفون حول مشاركة المرأة الانتخابية، ويكاد الكثير من اليمنيين لايعرفون عن ملكة سبأ العظيمة أكثر مما ذكره القرآن الكريم حولها.. ولم يسبق أن بلغ علمي أن هناك من نظم ندوة أو معرضاً عن «بلقيس» إسوة بالبريطانيين والكنديين والألمان.. ولم يسبق لأحد أن فكر بإنتاج مادة تلفزيونية حولها إسوة بالأردنيين الذين باعوا مسلسلهم لقناة دبي. ملكة سبأ في الثقافة الشعبية اليمنية ليست إلا اسماً للتفاخر وليست ثقافة تاريخية لحقبة عظيمة نالت شرف الذكر في كتاب الله تعالى.. وانني لأشفق على هذه الملكة اليمانية الخالدة أن تتحول في وطنها إلى «بلقيس» اليتيمة التي لم تجد اباً يسرد سيرتها بأمانة تاريخية، ويأخذ بيدها إلى مصاف النماذج التاريخية التي جعلتها السينما العربية مطبوعة في ذاكرة الأجيال. ما جعلني اليوم أمر على ذكر الملكة بلقيس هو ذلك الكم المعرفي الهائل المخزون في شبكة الانترنت حول ملكة سبأ، والمكتوب بأقلام أجنبية، وبمختلف اللغات الأوروبية، دون أن يجد نظيراً بأقلام يمنية.. فنصف اليمنيين يسمون بناتهم «بلقيس» وفي كل مدن اليمن هناك قاعات وصالات ومحلات تجارية تحمل اسم «بلقيس» ومئات الأغاني والأناشيد تصدح باسم «بلقيس» لكن من منا يعرف عن «بلقيس» أكثر من كونها «بنت الهدهاد» وما ذكره حولها القرآن الكريم. رأيت في مواقع انترنت أجنبية صوراً جميلة لملكة سبأ - وإن كانت من نسيج الخيال - لكني طوال الفترة السابقة لم أكن أتخيلها سوى «منقبة» إسوة بكل بمثيلاتها التي نراهن اليوم.