في سيرته الحياتية الثرية واجه جبران خليل جبران الأيام بنزعة دهرية إبداعية، فقد عاش دهور الثبات والتحول وما يتجازهما. بيان ذلك أنه عاش دهرالثبات لأنه ابن المكان والزمان المُحددين بالثقافة والهوية والحنين، وعاش دهر التحول لأنه تنقّل في مفازات المكان والزمان والثقافات، وتاخم الأماني والآمال التي نطقت بها كتاباته ولوحاته، وكان مخطوفاً بما يتجاوز دهري الثبات والتحول، لأنه كان مقيماً في ميتافيزيقا الوجود، ممسُوساً بمعنى اللانهاية، رائياً لواحدية الإنسان . تلك الأحوال التي بدت في حياته المرقومة غيباً وسالفاً، توازت أيضاً مع المحنة الوجودية مُتعددة الحراب، فمن الهجرة الأُولى في الطفولة، إلى العودة القلقة لمروج لبنان وشواطئها، إلى الهجرة التالية بكل تضاريسها المكوكبة بمرحلة المد الرأسمالي المتوحش، وحتى سلسة الوفيات التراجيدية لأمه وأخواته، ثم سقوطه فريسة لذات المرض الخبيث «السل». لم تكن سيرة جبران تعبيراً عن الذات فحسب، بل كانت أيضاً، وفي أُفق ما ترجماناً لحالة عربية وعالمية شاخصة، فالعالم العربي الذي خرج من إضبارة الامبراطورية العثمانية توقاً لمستقبل مشرق ووحدة عربية ناجزة وقع فريسة التقسيم والتمزيق، والعالم الغربي المُترع بالاستعمارات والنهب المنظم شارف على بوادر الحرب الكونية الأُولى بعد أن استبدّت الشوفينية والتعصب بالعقول، والقطيعة المنهجية مع الماضي الرومانتيكي توازى مع حيرة متجددة، ووحشية أشد وأقسى. كان جبران شاهداً على الحال، غارقاً في لجة البحث عن واحته الطوباوية الناعمة، مصانعاً في أُمور الأيام وهو يحمل في دواخله عجز الرائي المتروحن. ترك الفانية مُنتقلاً إلى السرمدية، ولكنه أبقى على بعض من بعضه ككل المنتقلين الفانين. جبران يستحق منا قراءة مُختلفة تستشرف بعض فضاءات هذه القامة الفنية العربية الإنسانية.