بالتوازي مع الدربة والتطويع المستمرين للمخيلة كان ابن دريد رحّالاً تنقّل بين بحار عمان وبلدان فارس ومتاهات العراق، فكان له من المشاهدات البحرية ومغامرات اليابسة ما جعله كائناً "أبيقوريا" بامتياز، ليس فقط في دأبه على الحل والترحال، بل أيضاً في تعامله مع مُكابدات الحياة. كان سخياً قدرياً لا يلوي على صروف الدهر وتقلباته، ويؤمن بأن مُتع الحياة لا تكمن في بُعد واحد، بل في تضاريس الجمال والجلال، فقد تساوى لديه جمع المال وصرفه، كما تساوت عنده الليالي والنهارات ففاض بروحية دهري يُراقب الحدث، ويشي بالتحول، وينتمي للماوراء... غير أن دهريته غير القيسية "نسبة إلى امرئ القيس" تقاطعت مع ثقافته المتوقدة، وتكثيفه الإجرائي المُحاصر للزمان والمكان مما يمكن استنطاقه من خلال نصوصه الشعرية. لقبه البعض بوصفه "علَم اللغة والكلام"، وهذا يُحيلنا مباشرة إلى استجلاء الفرق والتكامل بين المستويين، فاللغة تأدب ومعرفة بأسرار البيان صرفاً وبلاغةً ونحواً وقاموساً، والكلام امتداد للمجادلة والحكمة والآراء مما شكل علامة فارقة في الزمن الثقافي" العربسلامي" عندما توازت علوم التفسير والتأويل مع الرؤى والأفكار الإنسانية بشقيها المشرقي واليوناني البيزنطي ممثلة في آداب الهند والصين وفارس شرقاً، وفي الآداب اللاتينية والإغريقية غرباً. قيل إنه كان شافعي المذهب، وإذا صح ذلك فإننا في حالة تماة إبداعي مع قامة شاملة كالإمام الشافعي الذي "جمع فأوعى" وعقد مصالحة تاريخية بين المذاهب السائدة، وكان فريد عصره في الكلام والآراء كما في الشريعة والحقيقة بحسب الصوفية .. الشريعة والحكمة بحسب الفلاسفة .