بعد أن أنهيت صلاة الجمعة في الجامع الذي تعودت الصلاة فيه، وبعد بضع دقائق من التأمل والتسبيح، أتاني من يضع يده على كتفي من الخلف فإذا به صديق كل جمعة التقي به في المسجد، وقد غبت عنه فترة طويلة، فجلسنا نتبادل الحديث مع بعضنا البعض . وبعد سؤاله عن أحواله وأولاده، حمد الله على العافية، وذهب يسرد لي أخبار أبنائه الاثنين الكبير والصغير، وأين يعملان .. وكيف هي الأمور معهما؟ لست في حاجة لمعرفة التفاصيل عن ابنه الكبير خاصة، فقد عرفت وتابعت بشغف منذ سنوات قليلة مضت سفر ابنه الكبير هذا إلى اليمن بعد الوحدة اليمنيه، ولأول مرة تطأ قدماه أرض بلاده اليمن، ونجاحه في الحصول على بعثة حكومية لإكمال الدراسة الجامعية في الأكاديمية البحرية العربية في الاسكندرية، وقد تخرج منها بعد سنوات من الدراسة، وبدلاً من أن يعمل في أي ميناء بحري يمني عاد لأرض المهجر يعمل في مهنة ليست لها صلة بالبحر لا من قريب ولا من بعيد، وهو في هذه الحال أضاع سني عمره في الدراسة الأكاديمية دون أن يستفيد أو يفيد، بل هو كذلك أضاع فرصة لطالب مواطن مقيم في بلده كان من الأجدر أن يتمتع بها ومن الطبيعي أن يعود ليستفيد منه الوطن في التخصص الذي درسه . عاد ابنه إلى المهجر وعلى مايبدو أنه كان يخطط ألا يعمل في اليمن أياً كانت المغريات، فقط كان الهدف هو الحصول على الشهادة الجامعية. والغرابة هنا ليس في مثل هؤلاء، لكن الغريب هو في كيف تذهب فرص لأبناء الوطن إلى آخرين هم أيضاً أبناء للوطن لكنهم لايساهمون في بنائه إطلاقاً. أنا لست ضد أبناء الوطن في الخارج.. لكنني كنت أفضل أن تذهب بعض التخصصات المعينة لطلبة من داخل اليمن حتى تستفيد منهم البلد . بالإمكان أن يحصل طالب مغترب على بعثة حكومية لدراسة الهندسة مثلاً، وإن عاد لأرض المهجر فلا ضير في ذلك، أما أن يحصل على بعثة في الملاحة والطيران مثلاً فلا أظن أنه صواب في إعطائها لطالب مغترب . من المؤسف أن الدولة صرفت على طلبة كهؤلاء مبالغ ولم تستفد الدولة أو الوطن من كل ذلك، ومما زاد الطين بلّة أن هؤلاء لم يستفيدوا هم أيضاً، وذهب كرسي محسوب لليمن في الأكاديمية والجامعة لمن لم يستثمروه وبالتالي حقيقة هم لايستحقوه . تلك قصة ابن صاحبنا ، مرت في ذاكرتي مروراً سريعاً وهو يشرح لي أحوال أبنائه، وعندما سألته عن الصغير أجاب شارحاً لي إنه يعمل في شركة كبيرة متعثرة مالياً - على مايبدو - وظننت أن تلك الشركة قد تأثرت بالأزمة المالية العالمية وبالتالي توقفت كثير من مشاريعها، وقد قلت له ذلك . عارضني صاحبي وبدأ ينفعل ( وتلفت خجلاً وأنا في المسجد) ولم يتبق كثير من المصلين في المسجد لذا فقد تنفست الصعداء، ذهب أخونا يسرد حال الشركة التي يعمل فيها ابنه الصغير وذهب يشرح لي أن هناك متنفذين وسماسرة ووسطاء وشركاء بالقوة يعطلون الكثير من أعمال الناس والمستثمرين أملاً في المشاركة أو أخذ نصيبهم. قلت له : يا أخي هذه الصورة وهذا العبث موجود في كل البلاد العربية تقريباً، بل ربما في بلاد ليست عربية، ونسمعه ونقرأه في كل الصحف العربية بصور مختلفة. لكنني أشرت إليه أن الطامة الكبرى أن الكثير من الناس يعتقدون أن ذلك موجود في اليمن فقط، ولكنه موجود في كل مكان في بلادنا العربية، وفجأة ارتفعت وتيرة انفعال صاحبي هذا وظهر على وجهه القهر والألم قائلاً: يا أخي الذي أراه وأسمعه يصيبني بالحزن والألم والضغط والقهر أن يكون هذا موجوداً في هذه البلاد التي فيها أعيش، وأحس بأن قلبي يقطر دماً مما أسمع . أنا لا تهمني اليمن يغيظني أن يحصل هذا هنا يا إلهي .. لقد نطقها هكذا سواء بوعي أو دون وعي ولكنها الحقيقه، هذا الأب رجل بلغ الستين من عمره وولد في الحبشة ولم تطأ قدماه أرض الوطن ووطأت قدما ابنه أرض اليمن وبحرها واستنشق من هوائها ودرس على حساب ابنائها، أما الأب فإنه فقط يحمل الهوية اليمنية كأي ورقة من الأوراق. عدت إلى البيت ولم أكن مستغرباً أو متعجباً أو مندهشاً أو مبهوراً لتلك التعابير التي أخرجها من فمه، فمن المؤكد أن لدينا من أمثاله الكثير، والسبب أن من في الوطن ومن درس في الوطن وتربى في الوطن وعمل في الوطن ولازال يعمل في الوطن قد يحمل نفس الشعور عن بلده اليوم كأخينا هذا، ولكنني توجهت بذاكرتي على أحداث الكثير منكم تابعها في الأسبوع الماضي وهي مباراة كرة القدم بين منتخبي مصر والجزائر وانفعالاتها . والتصرفات المجنونة والهادرة والعنيفة من قبل الكثير من مواطني الجزائر ومصر دفاعاً عن وطنهم وبلدهم رافضين أية إساءة إليه مهما كانت.. وحيث إنني لا أقبل التجاوزات التي حصلت من الطرفين.. ولكنني أشيد وبقوة على وطنية وحب كل فرد منهم لبلده كبيراً كان أم صغيراً، وقد اتصلت بصديق جزائري في الجزائر لمشاركته الفرحة وقد تجاوز العقد الخامس من العمر فوجدته فرحاً لدرجة الثمالة رغم أنه ليس رياضياً على الإطلاق، لكن حب الوطن هنا جعله رياضياً بين ليلة وضحاها . الحالتان المذكورتان فيما بين صاحبي وشعوره الوطني وحالة الشعور الوطني لدى شعبي مصر والجزائر هما معيار الوطنية والحس الوطني الحقيقي. من المؤكد ( ولن يختلف معي أحد ) أن الحس الوطني وشعوره هو سلوك مطلوب زراعته في النشء منذ منذ بداية التربية الأسرية.. لايكفي أن يكون هناك مادة تدرس التربية الوطنية ولا يكفي أن تكون هناك برامج تلفزيونية وإذاعية لنشر الروح الوطنية لدى المتلقين، ولا يكفي أن يكون هناك قانون يلزمنا أن نكون وطنيين، وأيضاً ليس بالضرورة أن نمر بكوارث طبيعية وحروب أهلية حتى نستفز روحنا الوطنية.. لكن المطلوب أن نؤسس ونزرع ونوجد الحس الوطني والروح الوطنية والإنتماء الوطني لدى كل روح فينا منذ الصغر، ويجب أن نتذكر أنه إذا لم نوجد حباً للوطن في نفوس أبنائنا فلن نجد في قلوبهم حباً لأحد في هذه الدنيا، ويقيني أنه إذا لم نزرع حب الوطن في قلوب وعقول أبنائنا فهذا معناه أننا لم نزرع الإيمان في قلوبهم، وإذا لم يوجد مكان للإيمان في تلك القلوب فتلك كارثة.. فهل نقف جميعاً متحدين أمام كارثة ضعف الولاء الوطني . ؟