يذهب الكثيرون إلى أن المركزيةَ تعدُّ من أسبابِ الفسادِ الذي تعانيه بعضُ الدولِ الحديثة في عالم الديمقراطيات العريقة، ويرون أنها - المركزية - تعرقل سلاسة السير في عملية التنمية والإسراع في استكمال البنية التحتية لهذه المدينة أو تلك لهذا المكون المحلي أو ذاك، الأمر الذي دفع بكثير من الحكومات إلى اتخاذ طريق اللا مركزية مسلكاً لمواجهة وتحجيم الفساد والشروع في إعطاء السلطات المحلية صلاحيات كبيرة تسندها في عملية استخلاص القرارات وتنفيذها من الوحدات الصغيرة ومتابعتها والإشراف على جودتها وإتقانها. ولأن العملية - أساساً - تحتاج إلى تغيير نمطية التفكير لدى النخب السلطوية المحلية لكي تختزل الزمن صوب استيفاء عملية تفعيل اللا مركزية وتعميق المحلية بوصفها ضامناً حقيقياً للتنفيذ والإشراف والمراقبة. وهذا لن يتأتي إلا من خلال تمهيد الأرضية السليمة للانطلاق بجدية وفق قناعات فكرية وحضارية ترتهن لفلسفة توزيع الصلاحيات ومحاربة التدخلات (المشخصنة) التي لا يعنيها من (المحليات) إلا ما يتيح فرصاً أكثر للثراء ويعطيها ضوءاً أخضر لتضخيم عدد الموالين والمقربين وإحلالهم في مواضع القرار في المحليات الوسطية - المديريات الكبيرة - والصغيرة - الريفية والصحراوية - وكذلك استغلال هذه الفسحة من اللا مركزية للبحث عن وجوه تسبّح بحمد هذا المسئول المركز، أو تلك الدائرة..من هنا صارت (اللامركزية) عندما تعهد إلى عقليات قاصرة عن فهم وإدراك العمل المؤسسي التكاملي المخطط له وفق استراتيجيات واضحة الرؤى والمعالم في المنطلقات والغايات والأهداف الآنية والمستقبلية، لا شك أنها سوف تتحول بفعل الفهم القاصر والنوايا المبيتة إلى تكتلات جديدة ممركزة لا تنفك تعيد إنتاج ما سعت إلى التخلّص منه، وما درجت على تحميله تبعات الإخفاقات والعراقيل التي اعترضت سير العملية التنموية والإصلاحات المؤسسية، تتحول هذه المكونات المحلية - شكلاً - إلى مركزية جداً في المضمون بما تحمله من ثقافة لا تستطيع أن تنطلق إلى آفاق رحبة محملة بتوجهات حقيقية تذهب إلى مراقبة الساحة المحلية بعيون حريصة على نجاح التجربة وتعميقها وتفعيل قوانينها. وأول هذه التوجهات يكمن في دقة الاختيارات وسلامة التدخلات وصوابية الإشراف، والابتعاد عن استغلال - المركز أو الدائرة - وإظهار المنطلقات الخاصة والمصالح الضيقة وكأنها هي المنافع العامة التي تخدم سياسة المحليات وتخفف من هيمنة المركزية على القرار. وقد باتت هذه العملية مكشوفة لدى الشارع المحلي، إلا أن هذه التكوينات والنخب السلطوية المحلية مازالت تعتقد - خطأً - أنها تسوّق بضاعتها الكاسدة في حارة لا تفقه في نوعية المعروض وجودته وجدواه، وكفى!.