قبل كتابة هذاالمقال أخذني التفكير طويلاً، ماذا أكتب بعد احتفالنا بعيد الأضحى.. وسألت نفسي: هل أكتب عن الأمة؟ هل أكتب عن الوطن؟ أم أكتب عن هذاالعالم السادر في الغي الذي استمرأ الضلال واستلذ البغي وغرق في المآثم ورفع راية القسوة والشدة والأنانية والنفاق، ولكنها كلها أمور مغلفة بمناديل من الحرير والديباج ومكللة بباقات الزهور والريحان، فإذا بالناس المساكين أمثالنا وقد وجدوا أنفسهم قد خدعوا حين ظنوا الشَّحْمَ فيمن شحمهُ ورم«مع الاعتذار لأبي الطيب المتنبي». قلت في نفسي: لماذا تكون كتاباتنا في معظم الأحيان كتابات حزينة، تبكي ولاتضحك، تحزن ولاتبهج؟؟ لماذا يشدنا الواقع إلى ساحات الكآبة والقلق والتوتر وكأننا مكتوفو الأيدي لانستطيع شده إلى الضحك والمرح والاستمتاع بالأمل والبحث بين ركام أسباب القهر عن مكان وجود أسباب للسعادة والمرح فأخذت على عاتقي أن أبحث عن موضوع يجعلنا نضحك ولانكتئب، فأخذت أقلب الكتب ثم الصفحات، فوجدت هذه القصة الطريفة في كتاب للشيخ علي الطنطاوي قال فيها: تم نقلي إلى البصرة ولما وصلتها دخلت المدرسة، فسألت عن صف «البكالوريا» أي الثانوية العامة.. توجهت إلى الصف من غير أن أكلم أحداً أو أعرفه بنفسي فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب في التلاميذ يودعهم، وسمعته يوصيهم«كرماً منه» بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويقول هذا وهذا ويمدحني.. فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضاً وأثني عليه، ونسيتُ أني حاسر الرأس، وأني من الحر أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص وبالأكمام القصار، فقرعت الباب قرعاً خفيفاً، وجئت أدخل، فالتفت إليَّ وصاح: إيه زمال وين فايت؟ «والزمال الحمار في لغة البغداديين» فنظرت إلى نفسي هل أذني طويلتان؟ هل لي ذيل؟.. فقال: شنو ما تفتهم «تفهم»؟ أما زمال صحيح. وانطلق ب«منولوج» طويل فيه من ألوان الشتائم مالا أعرفه وأنا أسمع مبتسماً.. ثم قال: تعال نشوف تلاميذ آخر زمان، وقّف إحكِ شو تعرف عن البحتري حتى تعرف إنك زمال ولاَّ لأ؟ فوقفت وتكلمت كلاماً هادئاً متسلسلاً، بلهجة حلوة، ولغة فصيحة، وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها وقابلت بينه وبين أبي تمام، وبالاختصار ألقيت درساً يلقيه مثلي.. والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم، محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه، وانتصب أمامي، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة، ولايملك أن ينطق، ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قرع الجرس.. قال: مَن أنت؟ ما اسمك؟ قلت: علي الطنطاوي وأدعو السامعين«القراء» الكرام أن يتصوروا موقفه. قال الجاحظ: كنت مجتازاً ببعض الطرق، فإذا أنا برجل كبير الهامة بطين، طويل اللحية، بيده مشط يمشط به لحيته، فقلت في نفسي: رجل قصير ألحى، فاستتر، فقلت: أيها الشيخ، قد قلت فيك شعراً، فترك المشط من يده وقال: قل، فقلت: كأنك صعوة في أصل خشن.. أصاب الحش طش بعد رش. فقال: اسمع جواب ما قلت. كأنك كندر في ذيل كبش.. يُدَلْدَلُ هكذا والكبش يمشي. حكمة المجانين قال المجنون الأول لزميله وقد رآه يصنع هكيلاً لصاروخ: ماذا ستفعل بهذا الصاروخ؟ سأذهب به إلى الشمس. ولكن ألا تخاف أن تحرقك الشمس؟ سأذهب إليها في الليل.