روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : قد يفر الأعرابي في الحرب قد يفر الأعرابي في الحرب، فلا يقر بالجبن عن الأعداء، وبالنكول عن الأكفاء، بل يخرج لذلك الفرار معنى، ويجعل له مذهباً، ثم لا يرضى حتى يجعل ذلك المفخر شعراً، ويشهره في الآفاق، قال مالك بن أبي كعب في الفرار: معاذ إلهي أن تقول حليلتي ألا فر عني مالك بن أبي كعب أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا غم الجبان من الكرب يقول: أنا وإن وليت هارباً حين لا أجد لي مقاتلاً، فقد وليت ومعي عقلي، وأتم الفرار في الحرب آلة من عرف المفر كما يعرف المكر، يقول: فلست كمن يستفزعه وهل الجبان، ولا كالذي يعجل فيلجم ذنب فرسه، ويركبه مشكولاً، ويركله برجله وهو مقيد، وينزل عن ظهره ويظن أن سعيه على رجليه أبلغ من ركض فرسه في النجاة، وقال زيد الخيل: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس ولست بذي كهرورة غير أنني إذا طلعت أولى المغيرة أعبس الله يعلم ما تركت قتالهم وقال الحارث بن هشام: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد فصددت عنهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد وعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي يقول: ليس من الصواب أن أقف موقفاً أقاتل فيه باطلاً. وقال عمرو بن معدي كرب: ولقد أملأ رجلي بها حذر الموت، وإني لفرور ولقد أعطفها كارهة حين للنفس من الموت فرير كل ما ذلك مني خلق وبكل أنا في الروع جدير فزعم أن الفرار من أخلاقه، كما أن الإقدام من أخلاقه، وهذا خلاف قول ابن مطيع: أنا الذي فررت يوم الحره والشيخ لا يفر إلا مره
ولا بأس بالكرة بعد الفرة وقول ابن مطيع شبيه بقول عتيبة بن الحارث بن شهاب حيث يقول: نجيت نفسي وتركت حزره نعم الفتى غادرته بإمره لا يترك المرء الكريم بكره وقد أقر كل واحد من هذين - على حدته - بالعيب، فأما الآخر فإنه حين فر ألزم نفسه وجميع الجيش، وهو قوله: فإن يك عاراً يوم ذاك أتيته فراري، فذاك الجيش قد فر أجمع مثل إحدى القبائل وأما عامر بن الطفيل، فقال: أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ولكن أتونا في العديد المجمهر وقال لبيد: أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ولكن أتونا كل جن وخابل أتونا بشهران ومذحج كلها وما نحن إلا مثل إحدى القبائل وأقر قيس بن الخطيم بغير هذا الجنس من الفرار فقال: إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود وازورار المناكب وقد علم قيس أن هذا المقدار لا يسمى فراراً، ولا يعير به أحد. ولما انهزم الناس يوم أبى فديك(1) كان عباد بن الحصين (2) من المنهزمين وهو يصيح بأعلى صوته: أنا عباد بن الحصين، فقال له بعض المنهزمين: فلم تنوه باسمك على هذه الحال؟ قال عباد: لكي لا تركبني غمرة. ألا ترى أن عباداً صحيح التدبير في حال انهزامه، وقد ترك القتال عن غير جبن، وترك القتال كي لا يقتل ضياعاً، وعباد فارس الناس غير مدافع، وإياه عنى الشاعر حيث يقول: من مبلغ عني نهيك بن محرز فدونك عباداً أخا الحبطات فدونكه، يستهزم الجيش باسمه إذا خاضت الفرسان في الغمرات والشاهد من الشعر على تقديم عباد على الفرسان كثير موجود. طوتك خطوب الدهر كان علي بن ثابت - وكان أديباً ناسكاً ظريفاً - مؤاخياً لأبي العتاهية فمات فرثاه ابوالعتاهية بمراثي منها : ألا من لي بأنسك يا أخيا ... ومن لي أن أبثك ما لديا طوتك خطوب الدهر بعد نشر ... كذاك خطوبه نشراً وطياً فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إليا بكيتك يا أخي بدمع عيني ... فلم يغني البكاء عليك شيا وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا وقال أبو العتاهية فيه أيضاً: يا علي بن ثابت أين أنتا ... أنت بين القبور حيث دفنتا يا علي بن ثابت بان مني ... صاحب جل فقده يوم بنتا قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا وقال أبو العتاهية في علي بن ثابت أيضاً: صاحب كان لي هلك ... والسبيل التي سلك كل حيٍ مملك ... سوف يفنى وما ملك يا علي بن ثابت ... غفر الله لي ولك من روائع المتنبي 6 وقوله: ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم (3) والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم لا يخدعنك من عدو دمعه ... وارحم شبابك من عدو يرحم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله، وخطاب من لا يفهم ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم وقوله: أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا وقوله: وفيك إذا جنى الجاني أناة ... تظن كرامة وهي احتقار بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار بها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار لهم حق بشركك في نزار ... وأدنى الشرك في نسب جوار لعل بنيهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلة العبدان عار طرائف ونوادر 15 تزوّجَ شيخ من الأعراب جارية من رهطه، وطَمِعَ أن تلِدَ له غُلاماً فولدتْ له جاريةً، وبعدها جارية فهجَرَها وهجر منزلها، وصار يأوِي إلى غير بيتِها، فمرَّ بخبائها بعد حولٍ وإذا هي ترقّص بُنَيَّتَها منه وهي تقول: ما لأبِي حَمزَةَ لا يَأْتينا ... يَظلُّ في البيتِ الذي يَلِينا غَضْبانَ أن لا نلِدَ البَنِينا ... تَاللَّهِ ما ذلكَ في أيْدِينا وإنَّما نأْخُذُ ما أُعْطِينا فلما سمع الأبيات مرَّ الشيخُ نحوهما حُضْراً حتى ولَج عليهِما الخباء وقبّل بنيَّتَها وقال: ظلمُتكما وربِّ الكعبة . وقال الجاحظ ما غلبني أحد قط إلا رجل وامرأة فأما الرجل فإني كنت مجتازاً في بعض الطرق فإذا أنا برجل قصير بطين كبير الهامة طويل اللحية متزر بمئزر وبيده مشط يسقي به شقه ويمشطها به فقلت في نفسي رجل قصير بطين فاستزريته فقلت أيها الشيخ قد قلت فيك شعراً فترك المشط من يده وقال: قل، فقلت: كأنك صعوة في أصل حش ... أصاب الحش طش بعد رش (4) فقال لي : اسمع جواب ما قلت . فقلت : هات فقال: كأنك بعرة في ذنب كبش ... يدلدل هكذا والكبش يمشي وأما المرأة فكنت مجتازاً ببعض الطرقات فإذا أنا بامرأتين وكنت راكباً على حمارة فضرطت الحمارة فقالت إحداهما للأخرى : واه !! حمارة الشيخ تضرط !! فغاظني قولها فقلت لها إنه ما حملتني أنثى قط إلا وضرطت فضربت بيدها على كتف الأخرى وقالت كانت أم هذا منه تسعة أشهر على جهد جهيد. الهامش (1)أبوفديك : خارجي فارس مغوار قتل نجدة بن عامر زعيم الخوارج عام 72ه وتولى زعامة الخوارج وغلب على البحرين وهزم جيوش الأمويين لكنهم في الأخير قتلوه عام 73ه (2) عباد بن الحصين بن يزيد بن عمرو الحبطي التميمي، أبوجهضم: فارس تميم في عصره. ولي شرطة البصرة أيام ابن الزبير. وكان مع مصعب أيام قتل المختار. وشهد فتح (كابل) مع عبد الله ابن عامر. وأدرك فتنة ابن الاشعث، وهو شيخ مفلوج، ورحل إلى كابل، فقتله العدو هناك نحو 85 ه. (3) يقق : شديد البياض (4)الصَّعْوَةُ صِغارُ العصافير وقيل هو طائرٌ أَصغرُ من العصفور وهو أَحمر الراس و الطَّشُّ من المطر فوق الرِّكّ ودون القِطْقِط وقيل أَولُ المطر الرَّشّ ثم الطَّشّ ومطر طَشٌّ وطَشِيشٌ قليل والحش أَسفل مواضع الطعام من الأَمْعاء فكَنَى به عن الأَدْبار . فهو شبهه بالطائر الذي يقف في مؤخرة بعض الحيوانات ويأكل مما يخرج منها. [email protected]